بغداد- العراق اليوم:
جبر شلال الجبوري
الديرة : كان أهلُنا الطيّبون يردّدون مفردةَ (الديرة) عندما يذكرون أو يتحدّثون عن منطقة الكريعات، ومازال الجيل الجديد ينحو نحوَهم في إفراد مكانة الاعتزاز والتعلُّق بالمنطقة، فالديرة متّصلة اتّصالاً وثيقاً بمشاعرنا وأحاسيسنا باعتبارها الربوع التي فتحنا أعيننا عليها والحاضنة الحميمة التي أطلقتنا لمدارج العيش واستقبال العالم، حتّى أنّه بمجرّد نطق لفظتها ووقعها المُنعش على السمع، يبعث في الوجدان الشعور بالسكينة، ويستثير كلَّ ما نختزنه من ذكريات النشأة والطفولة والعلاقات الحميمية والمودّة والاحترام وصلة القرابة والأرحام والشعور بالألفة مع الحياة. الديرة: بالنسبة لي تعني الكريعات التي عشتُ فيها وترعرعت بين بيوتها الطينية القديمة وأزقّتها الضيّقة التي كانت تضمّ بين حناياها كلَّ البيوتات الراقية بأهلها الطيبين المأموني الجانب، فهي الحضن الأوّل، وهي التربة التي امتدت فيها جذور النشأة الاولى، فكان أجدادُنا وآباؤنا الأُباة يسمّون الكريعات: (ديرتنا) ويفتخرون بها لأنها كانت ولا تزال تضمّ وتأوي طيفاً متعدّداً من العشائر العربية الأصيلة التي سكنتها منذ قرون، وحتّى هناك من ساكنيها أبناء عشائر كردية معروفة، فهي (ديرة) عشيرة الجبور والعزّة والدليم والغرير وبني سعد وشمّر والخزرج وبني تميم وبني رچاب والدهلكية والزبيد والحمدان والبرزنجية (الحِجّاج) وآل باش، وقد تعايشوا في المنطقة وكأنّهم يسكنون بيتاً كبيراً واحداً، و(أهل حَمولة واحدة) وكانوا بأجمعهم يطلقون على الكريعات بأنّها (ديرتهم)، مُقدّميها على العشيرة التي ينتمون اليها، وكأنّ لسانَ حالهم يفصح عن أنّ: ( الديرة قبل العشيرة). الدِيَرة في القاموس تعني جمع دارة، وكلمة (الديرة) التي يتداولها عامّةُ الناس تعني المنطقة المكوّنة من عدد كبير من البيوت يسكنها عددٌ كبير من الأُسر الكريمة وتشكّل بكل مكوّناتها مجموعة البيوت لسكّان المنطقة، ومنها الكريعات وكأنّ بيوتَ ساكنيها تشكّل بيتاً كبيراً واحداً داخل بيت الكريعات الكبير، وترتبط كلمة (الديرة) بمعانٍ اجتماعية سامية، فعندما يقول أحدُهُم: ديرتي، أو ديرتنا، فهذه اللفظة تعني إكرامَ الزائر أو الضيف ونجدة المُستغيث وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب، من جهة، ومن جهة أخرى التعاضد والتلاحم بين أبناء المنطقة والانتماء المُشترك لها والارتباط بها روحياً ووجدانياً. لقد مضت قرون طويلة متعاقبة على ديرتنا التي عاش فيها آباؤنا وأجدادنا ومن بعدهم أبناؤهم وصولاً إلينا نحن أحفادُهم، وقد بقيت على ماهي عليه من عادات وتقاليد جميلة وعظيمة، فالتكافل الاجتماعي لايزال قائماً في ديرتنا الكريعات. وكذلك بقيت الكريعات التي عشنا فيها بتعدّد مراحلنا العمرية، على حالها وسيرتها العطرة الأولى، لم تتغيّر وكأنّها تأبى على التغيُّر، فعلاقات الاحترام والمودة والنجدة سائدة بين ساكنيها، تلك العلاقات الحميمة التي لاتزال تشكل حجرَ الأساس لديمومتها، فديرتنا الكريعات عصيّة كلَّ العصيان على التنكُّر لعاداتها وتقاليدها العربية والإسلامية ولا تريد أن تغيّر ملامحَ وجهها البشوش عن ضيوفها والساكنين فيها من القادمين اليها من مدن أخرى. ديرتنا الكريعات لازالت تصرّ على وحدة الكلمة بين أهلها وترفض أن تتباعد بيوتها أو تتفرّق عشائرها وجموعها أو تتناثر مكوّناتها التي اصبحت واقع حال يجمعها بالآخرين، فالناس في ديرتنا الكريعات من الذين يسكنونها لا يكاد يطرأ عليهم أي تغيير يذكر منذ سنين طويلة، وحتّى أبناء الأسر الممتدة في تأريخها الطويل في المنطقة كأجيالٍ جديدة، حرصوا على التقارُب في السكن الذي كان امتداداً للعائلة الأبوية التي تجمّع أبناءها داخل الأسرة الكريعاوية الواحدة، ديرتنا التي عرفنا من خلالها انحدار وأصول بيوتها بيتاً بيتاً، وأرومات ساكنيها وأسماءَهم وحِرَفَهم ومزارعهم والتفرّعات التي تؤدي إلى بيوتهم، بل وكلّ السواقي والجداول والأشجار التي كانت تجمّلُ تفاصيل أمكنتها، ولا يوجد فيها شبر من بستان أو أرض إلا وسارت عليه أقدامنا ليلاً أو نهاراً حتى خبرنا عنها كلّ جماليّاتها، حيث نعرف كلّ (درابينها) وزواياها وشواطئها ونخيلها وبساتينها ورجالها ونساءَها ودراويشها الذين كانوا يجوبون شوارعها وسط الديرة، فما من شيء في ديرتنا الكريعات إلّا وقد دخلت تفاصيله في مكتبة حياتنا حتّى شوارعها وجدرانها ورملها وحصاها أو حصل لنا معها قصة أو ذكرى جميلة، فضلا عن معرفة بعضنا البعض بل ومعرفة كلّ الوجوه الكريمة وآثار ومأثر أهلنا الطيبين الراحلين الذين عاشوا في ديرتنا وأورثونا خصالَهم الحميدة التي سنبقى نعتزّ بها ونُفرد لها مكاناً في نفوسنا كمكانة الشريان الأبهر من القلب. إنّ طبيعةَ (الديرة) وأقصد بها (الكريعات)، قد تشكّلت منذ زمن أهلنا الأخيار الراحلين أصحاب النفوس الطاهرة والعبقات الزكيّة، الذين زرعوا فينا المُثُلَ العليا من الصدق ونكران الذات وإشاعة المودّة والرحمة والتقارب بين الناس، ولقد بقيت الكثير من تلك الصفات الطيبة تعيش في نفوسنا بالرغم من الغربة والافتراق عن تلك الأيام الخوالي التي عشناها في ديرتنا والتي لا تنفكّ عن ذاكرة أهلها ولو تباعدوا، كما أنّهم لن ينسوا ذلك الحنين الطاغي إلى الديرة الاولى التي عاشوا بها فهي ذكريات لصيقة بالضمير كما بجدوى الحياة، فحبنا لديرتنا (الكريعات) لا حدودَ له سيّما هو متأصّلٌ منذ الطفولة التي فتحت عينها عليها، وسنبقى نتذكرها في كلّ يوم مادام النبضُ مرافقاً للقلب، لأنّها الديرة التي جمعت كلَّ العشائر الأصيلة فكانت بحقّ (ديرة) الجميع التي يحقّ لهم أن يفخروا بها إنها (( ديرتي )) الكريعات …..
*
اضافة التعليق