بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي افتتاحية جريدة الحقيقة ما أن نشرت مقالي الموسوم (كاسيت مقتل الحسين، وضابط الاستخبارات السامرائي الذي أنقذ عنقي قبل 42 عاما)، في جريدة الحقيقة قبل ثلاثة ايام، والذي تحدثت فيه عن موقف عقيد الاستخبارات حامد عبد الكريم السامرائي، ودوره الإنساني النبيل في حمايتي من تداعيات وتبعات (المشكلة) التي حدثت عندما قمت ببث كاسيت (مقتل الإمام الحسين ) بصوت الشيخ عبد الزهره الكعبي، في الاذاعة الداخلية لوحدتي العسكرية التي كنت جندياً فيها قبل 42 عاماً.. وقد ختمت ذلك المقال بطلب شخصي وجهته (للعقيد ) ذاته، دعوته فيه أن يطمئنني على وضعه، خاصة بعد اطلاعي على معلومة تفيد باعتقاله من قبل جهاز المخابرات العراقي، قبل نهاية الحرب العراقية الإيرانية بتهمة الاستعداد لقلب نظام صدام.. وقد تم الإفراج عنه عام 1990 لعدم ثبوت التهمة .. كما تقدمت في المقال ذاته برجاء الى الاخوة الأعزاء من أبناء سامراء، تمنيت فيه افادتي بأي معلومة عن الرجل الطيب لاشكره على ما فعله معي. وما أن نشر المقال حتى انهالت عليّ الاتصالات، والمسجات، والرسائل، معطرة بالمشاعر الاخوية النبيلة، وكل واحد من اصحابها يريد مساعدتي في هذا المسعى.. وكانت اول المسجات من الصديق الدكتور جمال الحديثي، حيث تطوع مشكوراً بارسال المقال الى بعض اصدقائه (السوامرة).. ليطلعوا عليه، ويأتونه بمعلومات عن هذا الضابط الوطني الشريف.. وعدا محاولة الدكتور جمال الحديثي، ثمة محاولات مشكورة أخرى، حيث تلقيت حوالي عشرة اتصالات من أشخاص كرماء، كان المقال قد أثار حميتهم الوطنية وغيرتهم الإنسانية، حتى أن أحدهم وهو الصديق (أبو فاطمة) قد تعهد بالسفر شخصياً الى سامراء ومعرفة الأمر بنفسه.. وبين هذا وذاك، تلقيت اتصالاً من الصديق علاء راضي (ابو همام)، ليخبرني بأنه تحدث مع أحد أقارب الضابط المقصود، وأن الاخبار لا تسر، بل هي مؤلمة ! حيث أخبره ابن عمه: بأن عقيد الاستخبارات حامد عبد الكريم السامرائي ( أبو حسام) قد أعدم من قبل نظام صدام حسين !! وحين سمعت هذا الخبر، لم أستطع ( تقبل ) الأمر، خاصة وأن معلوماتي تقول ان صدام قد عفا عنه، وعن المجموعة كلها، فضلاً عن أن التهمة لم تكن دقيقة، ولا تتعدى الشبهات، أو الوشايات الرخيصة الكاذبة .. ! لكن صديقي علاء، أخبرني وهو يحاول تهدئة خاطري بأن لديه رقم تلفون شقيق العقيد حامد السامرائي، وهو محام و(شيخ) عشيرة وشخصية محترمة، ومعروفة في سامراء وبغداد وغيرهما، واسمه مهند أبو سيف، وبالامكان التأكد منه، فلديه الخبر اليقين .. وهل هناك أعلم بالشخص من شقيقه!. وهكذا اتصلت بالمحامي والشيخ مهند عبد الكريم السامرائي.. ولا أخفي عليكم، فقد كنت خائفاً في البداية، ومتردداً من الاتصال به، خشية أن يؤكد لي صحة خبر إعدام شقيقه العقيد حامد السامرائي..! وحين سمعت صوت المحامي مهند عبر التلفون، اعتقدته للوهلة الاولى صوت العقيد حامد.. لقد كان الصوتان متشابهين جداً، بل كأنهما نسخة واحدة، ونبرة واحدة، ولا أظن ان أحداً يستطيع التمييز بينهما مهما كان قريباً منهما..! في البدء سلمت عليه، وعرفته بنفسي، ثم سالته بهدوء مصطنع- بينما كان يصطخب في داخلي الف بحر هائج-وقلت له ببرود: ما هي أخبار أبو حسام - وأقصد أخبار شقيقه العقيد حامد -! فاستغرب الرجل من سؤالي هذا، مما دفعه الى أن يطرح عليّ عدداً من الاسئلة الاستيضاحية، مثل وين وشلون وكيف تعرف شقيقي حامد، ومتى آخر مرة قابلته فيها، واسئلة مشابهة أخرى، وقد اجبت عن كل اسئلته، وأنا طبعاً أعذره في طرح مثل هذه الاسئلة، فقد كان سؤالي عن شقيقه بهذه الطريقة يكشف عن عدم معرفة، أو انقطاع تام عن بيئة سامراء .. لكن الشيخ مهند أبو سيف قطع عليّ أفكاري، وقال: لقد أعدم شقيقي أبو حسام في أواخر عام ١٩٩٧ مع مجموعة من رجال وأبناء سامراء ..! لم يكن جواب أبي سيف مفاجئاً لي، فقد تلقيته على شكل دفعات، لكني شعرت بألم وحزن شديدين.. إذاً، فالرجل أعدم، ولم يعد أي أمل في رؤيته، وتقديم الشكر له.. وراح شقيقه الشيخ مهند يحكي لي قصة اعتقاله واعدامه بالتفصيل، ويسرد لي معلومات كثيرة ومهمة، لا سيما بعد وثوقه بي وتأكده من صحة، وصدق علاقتي بأخيه.. وطبعاً فإن المعلومات التي في حوزة الرجل، لم تتكون بسبب كونه شقيق أحد أبطال رواية (قضية السوامرة) العقيد حامد عبد الكريم فحسب، ولا لأن أغلب المشاركين في هذه الرواية هم أقاربه وأبناء مدينته فحسب أيضاً، إنما لأنه بالذات كان أحد شخوصها، وأبطال فصول هذه التراجيدية.. إن هذه الرواية البطولية لأبناء سامراء الباسلة، لا تستحق فقط أن تنشر في مقالات صحفية، أو حتى في كتاب خاص، إنما تستحق أيضاً أن تكون فيلماً روائياً، تشاهده الأجيال العراقية جيلاً بعد جيل ..! لقد ابتدأ الشيخ مهند ابن الشيخ عبد الكريم حسن الياسين السامرائي، شيخ عشيرة البو علي العباس، حديثه لي قائلاً: اعتقل شقيقي حامد مرتين.. الأولى، وكانت في أواخر عام 1987 مع عدد من ضباط وشخصيات بارزة في سامراء، بتهمة الاعداد لانقلاب عسكري ضد نظام صدام حسين، ومن بين المعتقلين وزير الثقافة الاسبق عبد الله سلوم السامرائي، واحمد طه العزوز - الشخص الذي اخرج الطلقة من رجل صدام عام 1959، والشيخ علي العليان- الشخص الذي قام بتهريب صدام الى سوريا بعد محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، وغيرهم من ( السوامرة) المعارضين لطغيان صدام وحكمه الفاشي. وقد قضى شقيقي وجماعته ما يقارب الثلاث سنوات في زنزانات الأمن الخاص، تلقوا فيها شتى صنوف التعذيب الهمجي، بحيث تعذر على أهلهم معرفتهم بسبب التدمير الذي تعرضوا له.. وقد كان شقيقي حامد أبو حسام، والشيخ العليان أكثر المعتقلين تعرضاً للبطش والأذى الشديد.. وفي خريف عام 1990 أطلق سراحهم لعدم ثبوت التهمة أولاً، ولأن صدام أراد تهيئة الاجواء السياسية والشعبية بعد احتلاله الكويت، فأعلن عن فتح صفحة جيدة بيضاء مع ( سامراء )!.. لكن صدام - كعادته- لم يصدق في كلامه، ولم يفتح صفحة جديدة كما وعد أهالي سامراء، إنما تعامل مع هذه المدينة تعاملاً قذراً، بحيث حرم ابناءها من جميع حقوقهم الوظيفية والدراسية- العسكرية أو المدنية - فضلاً عن حرمان المدينة من كل استحقاقاتها لاسيما الخدمات والبنى التحتية الاستراتيجية أو العادية البسيطة.. وباختصار شديد، فقد تعامل صدام ونظامه مع سامراء، معاملة العدو للعدو ! ورغم أن ابناء سامراء التزموا تماماً، واوقفوا جميع أنشطتهم السياسية وغير السياسية المعارضة، إلا أنهم لم يتوقفوا قط عن التفكير باسقاط النظام وتحرير العراق من هذه الطغمة- لاسيما شقيقي العقيد حامد، الذي كان يحظى باحترام وتقدير كبار الضباط في المؤسسة العسكرية، كما يتمتع بعلاقات واسعة مع الكثير من الضباط في مختلف الفرق والفيالق، لاسيما الفيلق الاول- لقد ذكر لي الشيخ مهند أسماء كثيرة لشخصيات من سامراء وغير سامراء، لم تتوقف عن التخطيط والاستعداد للقيام بعمل عسكري ضد نظام صدام،إلا أن مساحة المقال لاتسمح بنشر كل هذه الاسماء، لكني أعد الجميع بأني سأواصل الكتابة عن هذه القضية، وعن تضحيات هذه الثلة الباسلة التي رفضت الضيم وأبت الاستسلام، لكي يعرف العالم كله، اسماء وتفاصيل وبسالة الرجال الذين ضحوا بحياتهم من أجل حرية العراق وسعادة الشعب، وليعرف العالم ايضاً أن صدام لم يكن عدواً لطائفة معينة فقط، إنما كان معادياً لكل العراقيين - شيعة وسنة ومسيحيين وصابئة وايزيديين.. كرداً وعرباً وتركماناً، وغيرهم من الأطياف-. أما الاعتقال الثاني للعقيد حامد، فقد جاء في يوم 13 / 12/ 1996، أي في صبيحة اليوم الاولى الذي تلا محاولة اغتيال المجرم عدي صدام.. وقصة هذا الاعتقال كما يرويها شقيقه المحامي مهند، تبدأ من انشقاق الفريق وفيق السامرائي، واعلان التحاقه بالمعارضة العراقية قبل منتصف تسعينيات القرن الماضي بفترة، حيث راح يتواصل مع بعض الشخصيات العسكرية والسياسية في سامراء، لكن شقيقي حامد المعروف برجاحة عقله، واتزانه، وعدم تهوره، كان معتكفاً آنذاك في بيته، ومعتزلاً النشاط السياسي، بانتظار الفرصة الحقيقية للانقضاض على النظام.. لكنه استجاب أخيراً للدعوات التي وصلته من جماعات متعددة، تطالبه بالمساهمة في اسقاط الحكم، وكان من بينها دعوة اللواء رحيم التكريتي مدير إدارة الضباط، ورفاقه وزملائه في سامراء وخارجها، وهكذا وافق على تبني فكرة الإنقلاب العسكري والسياسي المسلح الشامل .. وكان شقيقي حامد بمثابة العقل المخطط لهذا التحرك في الداخل، بالاتفاق مع تحرك مسلح يقوم به الاخوة الكرد بقيادة الراحل جلال الطالباني، وبدعم دولي شرعي، بحيث يتوازى تحرك ( سامراء ) مع تحرك بعض المدن العراقية، ومشاركة الكرد مشاركة اساسية.. لكن للأسف لم يتم هذا التحرك بسبب الضغوط الامريكية التي مورست على الراحل الطالباني من اجل إيقاف هذا التحرك العسكري والغاء الفكرة.. وبعد فشل هذا المشروع، قرر شقيقي حامد التوقف عن التفكير بأي مشروع عسكري ضد نظام صدام. وبالفعل، فقد التزم بيته، ولم يعد يلتقي بأي شخص من جماعته المعارضين .. حتى جاء يوم 12 / 12 / 1996 ، حين تعرض المجرم عدي صدام الى محاولة اغتيال في المنصور.. وهنا تبنت عدة قوى عراقية معارضة هذه العملية، وكان من بين المتبنين، وفيق السامرائي، حيث أعلن عبر إحدى الاذاعات أن عملية اغتيال عدي نفذها ضباط وشيوخ وشباب من ابناء سامراء .. وفي منتصف الليلة ذاتها التي صرح فيها وفيق هذا التصريح الخطير، اتصل بي شقيقي حامد، طالباً حضوري حالاً، فذهبت اليه، وقد وجدته منزعجاً جداً، وأخبرني بما صرح به وفيق، وقال: أنا أتوقع شراً عظيماً سيأتي الينا والى سامراء بعد هذا التصريح! وحين طلبت منه أن نهربه في الحال الى خارج سامراء، والالتحاق بكردستان، رفض ذلك، وقال لننتظر يوم غد ونرى، لكن أزلام مخابرات صدام والأمن الخاص طوقوا سامراء فجر اليوم ذاته، واعتقلوا خيرة أخوتنا وابنائنا، ومن بينهم شقيقي حامد واحمد طه العزوز وعلي العليان وعدنان ثابت وغيرهم.. وقد حُكم أغلبهم بالاعدام رغم أن صدام كان متأكداً من أن يد ( سامراء) بريئة من دم عدي الفاسد.. لكن صدام حسين الذي كان يشعر بعقدة (النقص) والدونية والصغر في الحجم أمام سامراء وعشائر سامراء، مضى بمشروعه التصفوي لهذه المدينة وابنائها الأحرار والبواسل .. لقد استلمت جثة أخي أبو حسام، وأقيمت مجالس الفاتحة في سامراء على روحه وارواح الشهداء، رغماً عن أنف النظام الذي منع إقامتها.. وبالمناسبة فقد اعتقلت أنا أيضاً مرتين .. مرة أثناء فترة اعتقال شقيقي وجماعته، ومرة بعد اعدامه، وقد كانت فترة الاعتقال الثاني قد تجاوزت السنة وتسعة أشهر، وكانت تهمتي تتمثل بـ( التحريض على النظام أثناء مجالس الفاتحة على ارواح الشهداء الأربعة عشر من أبناء سامراء الميامين) وفق كتاب رفعته مخابرات محافظة صلاح الدين الى بغداد، مستندة الى وشاية أحد وكلائها ( اللواء …… )- جريدة الحقيقة تحتفظ بنسخة من هذا الكتاب، الذي زودها به الشيخ المحامي مهند عبد الكريم السامرائي -. وحين أغلقت التلفون مع المحامي مهند بعد حديث تجاوز الساعتين .. كان الوقت لدينا قد تجاوز الثانية عشرة ليلاً .. وهذا يعني أن أذهب الى فراش النوم .. ولكن كيف سانام، وقد تأكد لي اعدام الرجل الذي منع اعدامي قبل 42 عاماً، وكيف ستغمض عيني، وهنا تذكرت نصاً كنت كتبته قبل سنوات بعيدة، أقول فيه: ( تعال وجيب عين وتگدر تنام)؟!
*
اضافة التعليق