بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
في ثاني أيام عيد الأضحى المبارك، اتصلت بأخي وصديقي الشاعر الكبير كريم العراقي، الذي يرقد منذ سنتين متواصلتين في أحد مستشفيات (أبو ظبي) في دولة الامارات العربية.. قلت له : عيدك مبارك أبا علي.. كل عام وأنت ترفل بالعافية والحب والشعر والجمال.. فقال بصوت واضح رغم وهنه وضعفه: عيدك مبارك حبيبي أبا حسون وكل عام وأنت بالف خير .. قلت له: أيامك سعيدة !! فقاطعني مقهقهاً بالقول: أي سعادة يا فالح، وأنا أغفو على قسوة ومرارة (الكيمياوي)، وأصحو على مشارط الأطباء وهم يقطعون، ويبترون، ويحذفون أجزاءً من جسمي المنهك بين الحين والآخر، بعد ان راحت خلايا (الخبيث)، تنتقل بحرية من مكان الى آخر ، دون رحمة.. كان كريم يتحدث معي بصراحة وثقة لم يتحدث بهما من قبل، فأحسست أن صاحبي يريد أن يقول لي كل شيء، دون أن يخفي عني أمراً، لذلك كان كلامه بمثابة المفاجأة الصادمة لي، مما أحزنني وأقلقني كثيراً، خاصة وهو ينطق بمثل هذه الكلمات المؤلمة في يوم عيد، لا تقال فيه مثل هذه الأخبار السيئة. في تلك اللحظة، شعرت بقلبي يسقط بين قدمي، وبقواي تخور، حتى كدت أصرخ باكياً، لكني تحاملت على نفسي واستقويت بصبري، وقلت له بصوت واثق، رغم المرارة التي ملأت فمي: لا تنس يا أخي أنك كريم العراقي.. الشاعر القوي والإنسان الصلب، المؤمن بالحقيقة، والذي واجه الموت أكثر من مرة دون أن يضعف أمامه.. ثم أكملت حديثي قائلاً: أنا واثق يا أبا علي أنك أقوى من المرض، بل حتى لو اجتمعت عليك كل أمراض الدنيا، فلن تهزم روحك العاشقة للحياة والجمال.. ثم قلت له: إحكِ لي وقل كل ما في صدرك واسترح، فنحن أخوة ياكريم .. فقال: لا أخفي عليك يا أبا حسون، أنا أعاني، وأقاسي كثيراً، لكني قوي.. قوي بإيماني، وبما في قلبي من ثقة وأمل وحب للناس ولأهلي وبلادي ومبادئي الوطنية.. ولن أضعف، أو أستسلم أبداً .. وهل تظن أن مثلنا يستسلم يافالح؟ ثم راح يتحدث عن عدد العمليات التي أجراها، وكم كان الامر صادماً لي حين علمت أن الأطباء يجرون عملية (استقطاع) جراحية له كل اسبوعين تقريباً.. كما تحدث كريم عن الأدوية والعلاجات التي يتناولها، وعن ساعات النوم القليلة، وكمية ونوع الطعام المحدد له، مما أنهك جسده واضعفه بحيث فقد ٢٥ كيلو غراماً وبات نحيلاً جداً كما يقول. وبينما كان كريم يتحدث عن عذاباته وآلامه، كان قلبي قد حلق بعيداً عنه، وكأنه لا يريد الإستماع لهذه الكلمات المؤلمة، ولا يريد أن يصدق أو يتخيل أن صاحبه يتألم ويعاني هكذا .. ثم قلت في نفسي: هو كريم العراقي، صديق عمري وتوأم روحي الذي قضيت في صحبته ستة وخمسين عاماً، بكل ما في هذه الأعوام من أفراح وأتراح وأحلام ونجاحات، واحباطات ويأس وفشل. وقد مرت كل هذه الأعوام امامي في تلك اللحظة مثل شريط سينمائي .. مرت ستة وخمسون عاماً بكل لياليها التي كنا نسهرها نجمة نجمة، وقصيدة قصيدة، ونهاراتها التي عشنا ساعاتها ودقائقها معاً.. هذا كريم العراقي، أخي وزميل دراستي منذ الصف الثاني متوسط حتى الصف الثاني والسبعين (سنة) من عمري..كريم (الكريم) الذي كان يغفر لي ذنوبي وشطحاتي وحماقاتي (الكثيرة) التي أرتكبها بحقه دون أن يعتب مرة، او يزعل مرة، وفي المقابل فقد كنت أسامحه أيضاً على أخطائه (القليلة) جداً جداً معي .. مرت في هذا الشريط، صور الأصدقاء الراحلين والأحياء، واحداً واحدا .. وفي الوقت ذاته مرت (الاماكن كلها) أمامي أيضاً بدءاً من متوسطة المصطفى ثم ثانوية قتيبة، ومدرسينا الأجلاء، وزملائنا الأعزاء، وبيتنا الوديع في قطاع ٤٣ ومكينة الطحن، ومقهى أبو كاظم ومقهى الميثاق، وساحة اتحاد فيوري، والحديقة التي كنا نقرأ في لياليها ونهاراتها قبيل الامتحانات النهائية، ومر في خيالي كذلك الملعب الصغير الذي كنا نلعب فيه الكرة، و صور أخي خيون أبو سلام، وحمود أبو عادل وكاظم مهلهل أبو ثائر، وجاسم عودة، وسيد محمد أبو جاسم، وكريم مغزل أبو فاضل، وعبد الحسين حافظ ابو نرجس، وحسن ضمد ابو حسام، وكاظم عبود، وصبري كاظم (سعيدة)، وكاظم الحميري، ورضا جونه، وكاظم ليالي أبو ثامر، وغالي الخزعلي، وعبد حجية وبشير الخزاعي وجمعة الحلفي وفاضل الربيعي وعواد ناصر وعبد الله صخي، وعبد جعفر، وعدد كبير من الرفاق والأصدقاء.. ثم ذهب بي الشريط السينمائي الى ذلك البيت الكريم الكائن في مدينة الثورة قطاع ٢٧ حيث كان يقف في بابه الشاعر الفذ كاظم اسماعيل الكاطع مرحباً بنا. وقبل أن ندخل، كان كاظم ينظر الى أيدينا وما فيها من (أكياس) رغم ان الرجل كان كريماً وباذخاً معنا، على الرغم من ظروفه المعاشية الصعبة، فكان (أبو وسام ) يعلق باسلوبه الفكه والمرح المعروف قائلاً : يا الله .. خلي نشوف الجماعة شجايبين اليوم، هذا فالح حسون (شايل ) بيده كيس كبير، وهذا داود سالم (شايل) كيس أيضاً، وهذا منعم الربيعي شايل كيس ونص قالب ثلج، وهذا حسين ريشان (شايل) كيس أيضاً، وهذا كريم العراقي كل شي ما شايل .. فصاح رحيم العراقي من بعيد: لا أبو وسام..كريم شايل (حلگ) فنضحك جميعاً، ويرمق كريم، شقيقه رحيم بنظرة قاسية مفهوم معناها !! وفي هذا الشريط السريع لاحت امامي تلك الأيام التي كانت تسبق يوم ٣١ آذار من كل عام، حيث نستعد لميلاد الحزب الشيوعي، فنقوم باعداد الأغاني الخفيفة التي تعتمد على الالحان المعروفة آنذاك، ونكتب لها الدارميات السياسية السهلة التي يستطيع الجميع ترديدها في السفرات والحفلات الحزبية، التي نشترك بها انا وكريم في المناسبات.. لقد كان كريم أخاً ورفيقاً طيباً، وصديقاً حقيقياً لي، فهو وليس غيره من كان يدفع ثمن نزقي وعلاقاتي العاطفية المتعددة أيام المراهقة والشباب، ويصر على ان لا يتركني أذهب منفرداً بموعد غرامي قط، فقد كان يخاف عليّ جداً، وكثيراً ماكان يرافقني في ليالي الشتاء الباردة، او ظهاري الصيف اللاهبة، وأنا أمر مثل قيس بن الملوح على ديار (ليلى) أَقبل ذا الجدار وذا الجدارا .. وما حب الديار شغفن قلبي .. ولكن حب من سكن الديارا .. حتى ان كريم من كثر معاناته معي في غزواتي العاطفية، عرف أسماء صاحباتي، وعناوين بيوتهن، فهنا تسكن نازك، وهناك بيت مديحة، وفي تلك الدربونة بيت أميرة، وعلى الشارع العام بيت جميلة، ولمى، وهكذا بقية صاحباتي.. ولكريم فضل كبير عليّ في رحلتي الشعرية، فقد سبقني هو في كتابة الشعر بثلاث سنوات، بينما سبقته أنا في العمل الصحفي بأربع او خمس سنوات حين عملت مبكراً في جريدة طريق الشعب.. بينما انخرط كريم في التعليم .. قبل ان يعمل في مجلة فنون ..لذا فإن لكريم دوراً مساعداً وداعماً كبيراً في تحولي من ميدان كرة القدم الى ميدان الشعر، رغم اعتراضه على اعتزالي الكرة، إذ كان يعتقد أن مستقبلي الكروي سيكون باهراً، رغم ايمانه بقدراتي الأدبية المتأتية من منافستي له في درس اللغة العربية، خصوصاً في مادة الإعراب والشعر . وهنا يجب ان أذكر أن كريم كان خلوقاً مؤدباً منذ صغره، عفيف اللسان حلو المعشر، لا يكذب ولا يشهد شهادة باطلة مهما كانت الظروف..ولطيبته ووداعته، كانوا يسمونه: (غاندي) ! وكان - رغم هذه الطيبة والتواضع- شجاعاً جداً عندما يحتاج الظرف لموقف شجاع.. وكم كنت أتمنى أن احدثكم عن مواقف عديدة أثبت فيها كريم شجاعة نادرة لكن مساحة المقال لا تسمح للأسف.. وفي الشريط (الافتراضي) الذي مرّ أمامي في اتصال العيد مع كريم العراقي، رأيت عشرات المواقف الحلوة في حياتنا، مثلما رأيت مشاهد مرة كثيرة .. ومهما تعبث الشيخوخة بذاكرتي، فهي لن تقدر أبداً على مسح اليوم الذي كان فيه كريم (عريس) المهرجان الشعري الكبير الذي أقامه الحزب الشيوعي العراقي على حدائق التشكيليين العراقيين في بغداد / عام ١٩٧٣ ، تضامناً مع شعب (تشيلي) الذي كان يواجه طغمة الدكتاتور أوغستو بينوشيه الانقلابية الفاشية. وقد ضم هذا المهرجان كبار الشعراء الشيوعيين في العراق، وكان لي شرف المشاركة بقصيدة تضمنت ثلاث لوحات نالت استحسان الجمهور.. لكن الحقيقة، فقد كانت قصيدة كريم : (سديناه شط السيد .. والسيد ما سد شطنه) قد (أكلت وشربت) المهرجان رغم بروز عدد من القصائد الجميلة مثل قصيدة عبد الله الرجب ورياض النعماني وابو سرحان وغيرها.. وهنا انتبهت فجأة الى أن كريم قد توقف عن الكلام، فحاولت ان أغير الحديث، وانهي المكالمة، فالرجل مريض، وقد أمضينا في المحادثة أكثر من خمس وعشرين دقيقة، فقلت له: هل تتذكر يا كريم قبل خمسين عاماً او أكثر، عندما سجلت لك الإذاعة قبل العيد بثلاثة أيام أغنية (يخالة بالخياطة خيطي ثيابنا..)، وذهبنا الى الصالحية بعد العيد لاستلام اجورها، وكانت (ستة دنانير)، وهذه اول اجور في حياتك تستلمها عن نص غنائي تكتبه، وهل تذكر كيف سحقنا هذا المبلغ الذي كان كبيراً آنذاك، ونحن نحتفل بهذا (النصر العظيم)؟! ضحك كريم، وقال : كيف لا أتذكر.. وقد صرفت كل المبلغ بيوم واحد عليك، فهذه اول مرة أحصل فيها على مثل هذا المبلغ، واول مرة أصرف عليك من جيبي، بعد ان كنت تصرف عليّ من جيبك باستمرار .. لقد كنت فرحاً ليس من أجل نجاح الأغنية، إنما من أجل نجاحي في استخدام جيبي ولو لمرة واحدة بعد ان كان ( ممنوعاً من الصرف).. !! فضحكت وضحك، وأيقنت تماماً قبل ان أنهي المكالمة الهاتفية ان كريم سينتصر على مرضه حتماً ودون أي شك.. فالشاعر الذي أسعد وأمتع العراقيين، وأبناء الوطن العربي بمئات الأغاني الرائعة، والذي كتب بثقة: ( شفتوا لاعب بالملاعب .. يلعب وإيده اعله جرحه)، لن يهزم أبداً أبداً.. إذ كيف يهزم، من يلعب وإيده اعله جرحه؟!
*
اضافة التعليق