بغداد- العراق اليوم:
لم يكن القاتل يعلم أنه بفعلته هذه، و جريمته التي اقترفها في تلك الظهيرة الساخنة، سيفتح باباً لا يدركهُ سوى العظماء، و لا يلج عبره الا اولئك الذين اختارهم التاريخ ليكتبوا اسمائهم في سفره الذي لا يدخله إلاٌ من نذروا أنفسهم من اجل مبادئ واضحة، و لعله سيضع الطغاة و القتلة و السفاكين، كنماذج سيئة في أدنى وأوسخ صفحاته، ليكونوا أيضاً شاهداً على وضاعة البعض، و سوء عاقبتهم.
اذا نحن امام صفحتين في سجل التاريخ، تلك الأولى التي ستكون على الدوام مثابة للحق والعدل والمساواة و الأفكار النيرة، و هذه بوابة عالية لا تقرع الا بتضحيات جسام، او كما يقول احمد شوقي:
" وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ… بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ "
و لعمري فأن شهيدنا البطل الخالد ستار خضير صگر الحيدر، طرقها بقوة و بسالة، و بعزم و كرامة، وشموخ و سمو، لم تثنه الكالحات من الأيام، و السود من الليالي المظلمة، مضى رغم انه لم يمضِ في طريق العمر طويلاً، بل غادر هذا العالم، و هو لم يتم عقوده الأربعة، بل كأن يد القدر كانت تخطط ان تقطفه وهو في ريعان شبابه، و زهرة عمره، و عنفوان عطائه، لكنه قطاف الناضج، قطاف من اكتملت صورته الثورية، و انجز مهمة حاسمة في تاريخ البلاد والحزب، فهذا الشهيد المولود في ميسان /قلعة صالح/ العام 1930، كان شعلةً لاهبة، متوهجة، و كتلة من العمل الحزبي منذ مطلع شبابه او نعومة اظفاره كما يقال، فهو الذي انتمى مبكراً للحزب الشيوعي حتى قبل ان تكتمل الخلايا الاولى، و هو الذي يمكن ان يكون تاريخ انتمائه الحزبي اقدم و اعرق حتى من تاريخ حزب قاتليه الذين انشأتهم دوائر الاستعمار.
مضى شهيدنا الخالد ثائراً، و لا تزال ذكراه تلهم من يريد ان يقرأ تاريخ النضال الوطني في بلاد زامنت محناً و شدائد و منعطفات لا يمكن ان تواجه الا بهكذا نوع من الرجال الذين يحملون ارواحهم على راحتهم، و يلقون بها في مهاوي الردى، فأما حياة تسر الصديق و اما ممات يغيض العدا.
لقد كتبت شهادة الحيدر، موجزاً لتاريخ زمن كانت الدكتاتورية تحاول ان تنشب اظفارها و مخالبها في عمق الحياة العراقية، و تريد ان تجهز على روح الوطنية الناهضة وقتذاك. بل كانت الشهادة بسيناريوهها الرهيب، و تلك التفاصيل الدراماتيكية، نهاية لائقة لرجل شجاع، فلم يكن يليق بمثل هذا القائد الشيوعي النوعي، ان يموت حتف أنفه، بل كانت كل الدلائل و المؤشرات تشير إلى أنه سيمضي كما مضى رفاقه، بدءاً من قائده الخالد فهد، مروراً بالبطل الفذ سلام عادل، و ذلك الرعيل من شهداء الحزب الذين قضوا في الزنازين و المعتقلات، والمشانق، و بالفعل، فقد سجل يوم 23 من حزيران من العام 1969، يوماً فاصلاً بين زمنين، زمن نضال شيوعي حافل، و زمن شهادة اسطورية سجلها شارع فلسطين في بغداد، حين انبرى قاتلان من أذناب البعث المجرم، ليجهزا على هذا البطل، أمام الناس، إلا أنه نهض رغم اصابته القاتلة، و لاحقهما بقوة و هو يصرخ بأعلى صوته : انا ستار خضير عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، و هو تعريف هز الإرجاء و اسمع من به صمم، فكانت الصورة مكتملة الأركان، نظام إجرامي يغتال قائداً شابا عارض بقوة عقد اي اتفاقية او تقارب مع نظام دكتاتوري احادي مجرم. وكانت الشهادة، وساماً يعلقه شقيقه فلاح وبقية أشقائه على صدورهم اعتزازاً ومجداً، وقلائد فخر لإبنته مي، وشقيقاتها الثلاث، وأمهم الصابرة المثابرة.. وأخيراً نردد تلك الصورة الجميلة التي كتبها الشاعر الشهيد فالح الطائي ولحنها الفنان الراحل طارق الشبلي: ستار شتلة ورد .. محمد بيابي العين ..
*
اضافة التعليق