بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة في مطلع العام ١٩٩٧، سمعت طرقاً على باب بيتي المتواضع في عمان، وحين فتحت الباب، وجدت شخصاً غريباً يسألني: العفو جنابك أستاذ فالح الدراجي؟ قلت بارتباك وقلق : نعم ! قال وهو يناولني ورقة صغيرة، قائلاً: هذا رقم تلفون العميد الركن نجيب الصالحي، يرجو أن تتصل به.. ثم مضى دون أن يترك لي فرصة للاستفهام والتاكد ! أخذت منه الورقة، وللحق فقد سعدت بها، جداً، إذ كنت ومعي الكثيرون، يعلمون بوصول هذا القائد الشجاع الى عمان، واعلانه معارضة النظام الدكتاتوري الصدامي.. لذلك كان اللقاء به فرصة طيبة لمعرفة ما في جعبة الرجل من آمال وأمنيات وطنية تطمئن خواطرنا المتعبة بل واليائسة أيضاً، خاصة وأنه لم يخرج (معارضاً) من أجل منفعة شخصية، أو سعياً الى لجوء سياسي أو إنساني في بلد أوربي، إنما خرج ليسهم في اسقاط النظام الهمجي وينقذ مع رفاقه وأخوته المعارضين، شعبنا الصابر المظلوم.. لذلك كان خروجه صفعة قوية للنظام الصدامي، وجرعة (أوكسجين) أنعشت النفوس التي كاد الإحباط يخنقها.. ولا أبالغ لو قلت إن مغادرة ضابط وطني بارز وشجاع مثل نجيب الصالحي، وفي ذلك الوقت الحرج تحديداً، كان أشبه بزخات مطر هطلت، لتسقي الآمال، وتحيي شجرة الحرية، والخلاص، بعد أن أصابها الجفاف واصابنا العطش. ودون انتظار مني اتصلت بالعميد الركن الصالحي، واتفقت معه على موعد، فذهبت الى بيته الذي كان يقع -كما اتذكر - منعزلاً فوق مرتفع في إحدى ضواحي عمان.. ومنذ اللحظة الاولى أدركت أن العميد الصالحي (معارض) حقيقي لصدام، وأنه جاد، وصادق في موقفه، وفي كل كلمة، وحركة، ونظرة بدت منه.. لذلك توقعت الكثير على يديه.. ولم يخيب الرجل ظني، ولا أملي، فقد فعل ما لم يفعله مجموع عشرة من زملائه المعارضين .. فقد تحرك في كل اتجاه، وطريق، وموقع يعتقد أن فيه عوناً ودعماً لحرية بلادنا وسعادة شعبنا.. فأسرع في اجراء العديد من الاتصالات الثنائية مع فاعليات سياسية وغير سياسية في عمان، كما أقام عدداً من المؤتمرات الصحفية، والحوارات واللقاءات الاعلامية، مع مختلف وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة، العربية منها والأجنبية. وبعد هذه النشاطات الواسعة التي قام بها الصالحي، جنّ جنون صدام واجهزته القمعية، فكان رد فعلهم عنيفاً بحقه، ولا أظن أن معارضاً عراقياً تعرض الى الأذى الشنيع على يد عصابة صدام المجرمة كما تعرض هذا الرجل الوطني الشجاع، الذي لم يرضخ، ولم يستسلم بل على العكس، فقد زاد نشاطه نشاطاً، وفاجأ صدام، ومرتزقته، عندما أصدر كتابه (الزلزال) في نهاية ١٩٩٨، والذي ضخ فيه كمية هائلة من اسرار وقصص لم تكشف من قبل عن جرائم النظام الصدامي بحق العراق، وجيشه، وانتفاضته المجيدة في آذار - شعبان - ١٩٩١، خاصةً وأن الرجل كان ذا موقع عسكري بارز حيث شغل مناصب عليا في الجيش، من بينها آمر اللواء المدرع ١٦، ورئيس أركان أكثر من فرقة، كان آخرها رئيس اركان فرقة المشاة الاولى، مما أتاح له فرصة الإطلاع على الكثير من المعلومات والأسرار. لذلك كان كتاب الزلزال - الذي صدر في لندن - زلزالاً حقيقياً - فضح فيه جرائم العصابات الصدامية بحق الجنود العراقيين في حرب الكويت.. والأفعال الفاشية التي ارتكبت بحق أبناء الانتفاضة المجيدة.. وقبل صدور هذا الكتاب، أذكر أن الصالحي طلب مني في ذلك اللقاء أن أقرأ مسودة (الزلزال)، وأن أبدي ملاحظاتي عنه، فناولني حزمة من الأوراق (المكبوسة) والمرقمة، تحمل في الصفحة الاولى عنوان ( الزلزال)، ثم قال لي: خذه معك، وأرجو أن تقرأه بتأنٍ، فأنا أثق بك وبامكاناتك، وسأكون لك شاكراً لو دونت ملاحظاتك لأستفيد منها قبل الطبع.. أخذت الكتاب، وشكرته على ثقته بي، فالأمر لم يكن سهلاً على ضابط معارض لصدام، يكتب مذكراته واسراره ويسلمها لشخص (في عمان)، وهو لا يعرفه، ولا بينهما علاقة شخصية من قبل، وانا هنا لا أريد أن أتحدث عن المخاطر التي كان يتعرض لها المعارض لنظام صدام في الأردن، خصوصاً حين يكون هذا المعارض جنرالاً عسكرياً يحمل في جعبته الكثير من الأسرار والمعلومات العسكرية الخطيرة.. في ظل نشاط وقدرة مخابرات صدام الفتاكة في عمان آنذاك ! وبالفعل، فقد رحت أقرأ مذكرات الصالحي، وانا في ذهول لما أراه من وحشية وقسوة في صدام. وبعد ثلاثة أيام أكملت قراءة مسودة ( الزلزال)، ودونت بعض الملاحظات والنقاط، والتصحيحات اللغوية البسيطة، التي لا أتذكرها الان، لكن الشيء الذي أتذكره، أني قلت له: (يا سيادة العميد، بعد صدور هذا الكتاب، عليك أن تغير اقامتك، وتنتقل من الأردن، لأن صدام لن يغفر لك هذ قطعاً ) ! بعدها غادرت الاردن الى أمريكا، وكان (الزلزال) قد صدر في لندن، وأحدث صدى وتأثيراً أغضب نظام صدام جداً، فكانت ردود أفعاله عنيفة وباهظة، دفع ثمنها المضحي البطل ( نجيب الصالحي) دون أن يندم أبداً.. وبعد سقوط النظام، عاد الصالحي الشجاع مع رفاقه واخوته المعارضين الى وطنه (الحر) ليجد الوجوه عابسة بوجهه، وكأنه لم يخاطر بحياته، وأسرته، ولم يدفع الثمن الذي دفعه بسبب موقفه الوطني المعارض للنظام.. فلا منصب، ولا موقع، ولا سلام ولا كلام ..! وللحق، فإن الرجل لم يشكُ لأحد، ولم يطالب بمنصب أو موقع، لكن المنصفين الذين يعرفونه جيداً، أغضبهم موقف الحكومات العراقية المتجاهل إزاء هذا البطل، ومن بين هؤلاء المنصفين الزميل العزيز عدنان أبو زيد، الذي كتب مقالاً شجاعاً قبل أيام حول موقف الحكومة من عدم اسناد أي منصب لهذا القائد العسكري، كما أذكر أني كتبت أيضاً أكثر من مقال عن الظلم الذي تعرض له هذا الرجل، وقد تساءلت وقتها وقلت: إذا كنت أتفهم ظلم صدام لهذا الضابط الذي كشف جرائمه، وعارضه بقوة، وأقام قريباً منه في عمان- مثل (سچين خاصرة)، فإني لن أفهم أبداً سبب ظلم نظام (ديمقراطي) حر لضابط وطني، حر !! بالمناسبة فإن الفريق الركن نجيب الصالحي هو أمين عام تنظيم الضباط الأحرار في العراق- وها أنا اليوم أكرر استغرابي، وأعلن استنكاري لهذا التهميش غير المبرر.. إذ كيف يجوز لنظام يدعي الديمقراطية، بل ويعدم رئيساً بعثياً دكتاتورياً متحيزاً، يقوم اليوم بمنح مناصب وزارية وقيادية في الجيش والحكومة العراقية، لعدد غير قليل من البعثيين، والقتلة، والفاسدين واللصوص الذين أوكلت لبعضهم مناصب مهمة في الدولة، بينما يحارب ضابطاً بطلاً تحمل مع عائلته وأقاربه أذى صدام، فضلاً عن نزاهة هذا الضابط ووطنيته الناصعة!. وللحق أقول، أنا لست ضد الضباط والقادة الوطنيين الشرفاء الذين يشغلون المناصب العليا باستحقاق، وهم كثر والحمد لله، لكني ضد التحيز والتمييز، والظلم .. واسترضاء البعثيين على حساب المناضلين الشرفاء، لأنك حين تُظلم من قبل نظام مجرم، فهذا شرف وفخر لك حتماً، لكن ظلمك من قبل نظام ديمقراطي حر يقوده رفاقك فهذا عار، يلبس ثوبه النظام (الديمقراطي) برمته.. أخيراً أقول: لا تنسوا أن المناصب تزول، والتاريخ الوطني لا يزول ولن يُمحى أبداً .. وأمامنا شاخصة تجربة الخالد عبد الكريم قاسم وتاريخه الناصع الشريف.. وكفى ..!
الفريق الركن نجيب الصالحي
*
اضافة التعليق