بغداد- العراق اليوم: بعد سنوات طويلة من الكفاح و التحدي و الألم أيضاً، و ضعت رحلة المناضل الشيوعي الصلب حيدر الشيخ علي أوزارها أخيراً في احد مشافي النروج، هذا الرجل الذي كان بطلاً من هذا الزمان، و من ذاك الزمان الصعب أيضاً، الرجل الذي اجتمع على معاداته و سلبه حريته، العدوان اللدودان، و لكنه لم يثنِ، حتى و هو يعيش اقسى أنواع العزلة في سجنه الانفرادي في أقبية سجن ايفين الشهير في طهران!.
رحل حيدر الشيخ علي، لكنه رحيل الرجل الصلب الذي تكالبت عليه السلطات الفاشية بنوعيها العلماني و الديني أيضاً، و حاولت ان تكسر بداخله تلك العقيدة اليسارية الصافية التي انتهلها شاباً في اولى خطواته، لكن ما قر بداخله من ولاء لليسار، و عزم وقدرة و ذكاء فطري و روح جبارة، كان أقوى من ان يخشى سلطات القمع، فمنذ أول اضراب عمالي قاده وساهم فيه في العام 1968 في معمل الزيوت النباتية، مع اول أيام وصول الفاشية البعثية، و الذي مثل صفعة قوية لهذا النظام المجرم، و ما ترتب على ذلك من ردة فعل إجرامية، تمثلت بالهجوم على المضربين و إعتقال قادة الاضراب، وما انتهت إليه الأمور باعتقال حيدر الشيخ علي، او (رحيم الشيخ آنذاك) ومعه قادة هذا الإضراب ، و من ثم الإفراج عنهم تحت الضغط الشعبي الواسع و المزلزل، و صولاً الى هجرة هذا القائد الصلب، و اتخاذه أسلوب المواجهة الحاسمة مع نظام البعث المجرم، و اشتراكه في قيادة النضال الوطني في جبال كردستان العراق، و من ثم العبور الى إيران حتى إعتقاله في العام 1981 من قبل النظام الإيراني بتهمة مضحكة، و ما لاقاه من عذابات هائلة في سجن ايفين الرهيب، الذي ورثه النظام الإيراني من نظام الشاه الساقط!
طالع العريضي.. بطل ايفين
كما نجح الروائي السوري حيدر حيدر، الذي رحل هو الآخر قبل ساعات قليلة، من تحويل قصة نضال شيوعية يسارية جريئة الى عمل روائي ممتع حمل إسم ( و ليمة لأعشاب البحر)، فأن قصة عذابات و صمود و كفاح و عنفوان حيدر الشيخ علي الهمت الروائي المعروف عبد الرحمن منيف، قبل ذلك في أن يتابع ما بدأه في سبعينات القرن الماضي، في رواية (شرق المتوسط)، بعمل اخر صدر في نهاية عقد الثمانيات تقريباً، و هو رواية ( الآن هنا.. أو شرق المتوسط مرة أخرى)، و هي رواية بناها منيف على ما رواه حيدر الشيخ علي شفاهياً للكاتب و المفكر العراقي الراحل فالح عبد الجبار، و عبر عشرة أشرطة صوتية، كان مدة كل شريط 3 ساعات، تسلمها منيف من عبد الجبار، و افرغ مضمونها في روايته المهمة جداً، و منح الشيخ علي اسم (طالع العريضي)، فيما سمى سجن ايفين الذي أكل من عمر حيدر الشيخ علي سبع سنوات عجاف، بأسم سجن العبيد، و قد وثقت الرواية بجدارة قوة و عناد (الشيخ علي) الذي قضى أياما و أشهرا لا يعرف ليله من نهاره، لكنه منذ أن خرج من ذلك الكهف اللا إنساني، حتى التحق مجدداً بحركة الانصار الشيوعية، و ظل يقاتل البعث بكل ما أوتي من قوة و عزم المناضل الجسور.
احتل حيدر شيخ علي مراكز حزبية متقدمة، فقد وصل الى عضوية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، و عضوية المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكردستاني، و ايضاً تقلد منصب وزير النقل و المواصلات في حكومة اقليم كردستان لعشرة أعوام، قبل ان يترك مواقعه جميعها طواعيةً بعد أن اضعفه المرض العضال، و ايضاً رغبة منه في دفع الدماء الشابة الى واجهة الحزب، و لكنه لم ينسحب من الحياة العامة، فقد ظل مواظبا على المتابعة و الكتابة و التحليل السياسي و التواصل مع رفاقه المناضلين في الحزب الشيوعي، ومع النخب و الكفاءات الوطنية الديمقراطية. حتى وافته المنية و خسر العراق واحداً من رجالاته الافذاذ، كما خسرت الحركة الوطنية التقدمية مناضلاً شهماً، ورجلاً سيخلد في سفر تاريخ العراق. الحزب الشيوعي العراقي ينعى احد قادته التاريخيين هذا وقد نعى الحزب الشيوعي العراقي، المناضل حيدر شيخ علي ببيان مؤثر، هذا نصه:
بأسى عميق تلقينا نبأ رحيل رفيقنا الغالي حيدر شيخ علي ، الذي كانت سيرة حياته سلسلة من الأمثلة الساطعة والكفاح المتفاني في سبيل قضية طبقته العاملة والشعب العراقي.
مضيئة تلك المحطات الثورية التي امتدت من اضراب عمال الزيوت عام 1968، حيث كان أحد قادة هذا التمرين الطبقي، والكفاح في الحركة الأنصارية أواخر الستينيات وفي فترتها اللاحقة أواخر السبعينيات، مرورا بسجون ايران وزنازينها الانفرادية في أوائل الثمانينيات، وتحديه الأسطوري للجلادين، ومشاركته الفعالة في انتفاضة آذار 1991.
ولعل من بليغ الدلالة أن نتذكر أن حيدر شيخ علي كان أحد الشخصيات المحورية في رواية عبد الرحمن منيف الموسومة (الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى)، التي أضاءت صفحات من معاناة (أبو فيان) كمناضل ونصير وسجين.
وخلال عقود النضال المديدة ظل حيدر شيخ علي ( أبو بلند ) من كوادر الشبيبة العمالية، ومن الشخصيات الجماهيرية المحبوبة، المعروفة بدفاعها عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين، ومن قياديي الحزبين الشيوعي العراقي والشيوعي الكردستاني.
وكانت مقاومته المرض خلال سنوات حياته الأخيرة صفحة أخرى في سجل حياته، اتسمت بالجلد والأمل، وفيها ظل متعلقا بالحياة حتى رحيله.
إنها مسيرة مفعمة بتحدي الصعاب، وتجسيد القيم السامية، والتمسك بالروح الوطنية والطبقية والأممية، واجتراح المآثر والدروس الملهمة.
أمام هذه الخسارة الفادحة برحيل رفيقنا العزيز ، الشخصية الوطنية والكردستانية، حيدر شيخ علي نتوجه الى رفيقة دربه والى عائلته المناضلة وبناته وأولاده فيان وانتظار وبلند وبيار ، ورفاقه وأصدقائه بأحر مشاعر المواساة والتضامن.
ستظل ذكرى فقيدنا العزيز حية في قلوب رفاقه ومحبيه، وستظل سيرة حياته ملهمة للشيوعيين وسائر الثوريين والوطنيين.
*
اضافة التعليق