ماركس وعبد الناصر وعلي السعدي ..  والأول من أيار  ..!

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

حين أطلق كارل ماركس ومعه رفيقه فريدريك أنجلز شعار (ياعمال العام اتحدوا) عام 1848، من خلال البيان الشيوعي، كان واثقاً بان عمال العالم لن يتحدوا بسهولة، ولن ينتصروا على مستغليهم في أول مواجهة تاريخية بينهما .. فالرأسماليون الذين يملكون المال والنفوذ والقوة لن يستسلموا، ولن يتنازلوا عن جبروتهم بمجرد أن يخرج العمال بتظاهرة ضدهم في الأول من أيار، أو يعلنوا الإضراب هنا، أو العصيان العمالي هناك.. انما ينهارون - وهذا رأيي الشخصي- عندما يتواصل كفاح العمال دون هوادة. وأظن أن من يعتقد أن البروليتاريا ستحقق دولتها المنشودة بمكرمة من الرأسمالية، لهو ساذج. 

فالصراع الطبقي صراع أزلي، نشأ منذ المرحلة التاريخية الثانية، وظهور (مجتمع الرق)، حسب مفهوم ماركس التاريخي.. ولن ينتهي هذا الصراع حتى يتحقق المجتمع الاشتراكي، وصولاً الى الشيوعية.. 

اذاً فإن مرحلة الرق والعبودية تمثل البداية الفعلية للمجتمع الطبقي، حيث ستظهر فيها الملكية الخاصة .. ومن الطبيعي أن تبدأ من تلك اللحظة دورة الصراع الطبقي، حتى وإن ظلت شعلة هذا الصراع مخبوءة في صدور المقهورين أحياناً.. 

إن مظلومية العبودية مثلا كانت سائدة في روما منذ أيام الإمبراطورية الرومانية، حيث قامت وتأسست على أكتاف العبيد بنايات الحضارات الكبرى بالعالم القديم.. وظلت متأصلة في الشعوب القديمة .. إذ مارس الأوربيون تجارة العبيد الأفارقة في القرن 15 بحيث كانوا يرسلونهم قسراً ليفلحوا الأراضي الأمريكية وظلت هذه التجارة مستمرة دون أن تنقطع او تتوقف، حتى عام 1906م حين عقدت عصبة الأمم، مؤتمر العبودية الدولي، لتقرر منع تجارة العبيد وإلغاء العبودية بأشكالها.

 وبعد مرحلة ( الرق)، لم يتوقف الظلم في التاريخ، ولم يتوقف الاستغلال، حيث ستأتي المرحلة الثالثة - مرحلة الإقطاع - وقد تجلى الصراع فيها عبر العلاقة الإستغلالية التي تشكلت بين ملاكي الأرض والفلاحين.. ولكن، وفي مرحلة الإقطاع ذاتها تشكلت طبقة التجار التي ستصبح نواة الطبقة الرأسمالية، والتي ستطيح بالنظام الإقطاعي برمته.. لذلك أولى ماركس اهتماما خاصا للمرحلة الرأسمالية (أي المرحلة الرابعة من تطور التاريخ).

ولم يخطئ ماركس حين قال في البيان الشيوعي: "إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ صراعات طبقية"..

ومادام الامر هكذا كما يقول ماركس، فإن جذوة الصراع بين المستغِلين - بكسر الغين- والمستغَلين بفتح الغين- لن تنطفئ مادام (فائض القيمة) يتراكم في خزائن القوى الظالمة، مقابل حياة البؤس والحرمان والقهر التي تعيشها الطبقات المستلبة، وهي الطبقات التي لن تخسر في كفاحها سوى (قيودها)…!

وطبعاً فإن دورة القهر الاجتماعي والعسف ، بل وحتى الصراع الطبقي لن تتوقف إلا في المرحلة التاريخية السادسة (أي الشيوعية)، وهي المرحلة التي تلي الاشتراكية، إذ ستلغى فيها الطبقات، وينتهي بها المجتمع الطبقي، فتضمحل الدولة عند انتشار الشيوعية في كل أنحاء العالم، بحيث يتولى الناس شؤون حياتهم الخاصة دون الحاجة إلى الحكومات أو القوانين. وهكذا تتأسس الشيوعية (الصرفة) التي تعتبر آخر مراحل التاريخ، حيث سيعمل الجميع من أجل الآخرين، دون الحاجة للملكية، أو للمال، وفيها يمكن استهلاك جميع السلع بحرية من قبل أي شخص يحتاج إليها..

هل أنت تحلم يافالح ؟

ربما، ولكن يجب أن نعلم أن أعظم منجزات التاريخ تحققت من (الحلم قبل العلم )، كما يقول أهلنا ..

وقد يقول البعض: لقد أتيحت للشيوعية فرصة ذهبية، وأضاعتها بسقوط الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الاشتراكي وإن هذه الفرصة لن تتكرر.. !

وأنا أقول: إن الاشتراكية ليست امبراطورية فتسقط كما سقطت الامبراطورية العثمانية، أو الامبراطورية الرومانية.. ولا هي حزباً فيزول من الخارطة مثلما زال الحزب النازي بعد انتحار هتلر، وهي ليست دولة، فتفكك كما الاتحاد السوفيتي  (لا عمي لا)، إن الاشتراكية فكرة، والفكرة لن تموت ابداً .. والاشتراكية منهج علمي اقتصادي وأخلاقي، ومثل هكذا منهج يظل مشعاً الى الأبد كالقمر، مهما اجتمعت عليه العتمة والغيوم الداكنة .. والاشتراكية كما أعرفها هي قضية انسانية تتعلق بمصير مئات الملايين من المسحوقين والمقهورين في الكون، فهل ستموت هكذا قضية وهكذا فكرة، وهكذا منهج عادل؟ 

والسؤال أيضاً : هل ماتت نظرية ماركس عندما مات الرجل، ورحل عن الدنيا؟ الجواب: قطعاً لا، فماركس الذي كان رجل القرن التاسع عشر، هو رجل القرن العشرين أيضاً، ورجل القرن الواحد والعشرين، وسيكون رجل القرن الثلاثين، وما بعد القرن الثلاثين، بدليل ان تأثيره واضح اليوم على الاقتصاد والفلسفة والسياسة والعلوم والاجتماع، بل وحتى على حركة الفنون الحديثة.. إذ كلما تتقادم السنين، كلما تتسع دوائر تأثير صانع النظرية وملهم الفكرة الاشتراكية، وتبرز جدواه. اما عن فشل الاشتراكية وسقوط الاتحاد السوفيتي على يد غورباتشوف عام 1991، فهو لعمري امر طبيعي، بل ويجب أن يحصل ذلك، فالماركسية ليست قالباً صلداً، إنما هي نظرية مادية جدلية حية، تقبل التجربة بكل متعلقاتها - أي بفشلها ونجاحها - وما حدث بالاتحاد السوفيتي كان مجرد تجربة ليس إلا، وهكذا هي التجارب، تقبل النجاح وتقبل الفشل، وتقبل التواصل والاستمرارية أيضا.

لذا اقول إن الافكار لن تندثر، ولا تندحر، خصوصاً حين تقف خلفها قضايا عادلة، حتى لو فشلت بادئ الأمر، وفي كل تجربة هناك التماعات، وعناصر إيجابية حتماً ..

فمثلاً تجربة الاتحاد السوفيتي -رغم كل ماقيل عنها- هي تجربة عظيمة ، اذ أن الملايين من الروس يشعرون اليوم بالخيبة لانهيار النظام الاشتراكي، بل ويحنون الى أيامه، فقد لاحظت ذلك بنفسي عند زيارتي لروسيا وجورجيا قبل سنوات قليلة.. ووجدت أن أهم شي افتقده الروس بعد تفكك دولتهم العظيمة، هو ذلك الشعور بالطمانينة، وعدم القلق والخوف من المستقبل، الذي كانوا يشعرون به أيام زمان، فالمواطن السوفيتي كان يضع رأسه على الوسادة وهو مطمئن لمستقبله ومستقبل أولاده، سواء من ناحية السكن والتعليم، أو من ناحية الدواء والخبز .. وكله مجاني.. والأهم هو شعوره بأنه مواطن في دولة عظيمة وصلت القمر ! 

أنا هنا لا أدافع عن النظام السوفيتي، فحتماً أنه ارتكب اخطاء كبيرة، وإلا ما انهار بهذه السهولة، لكني أنقل مارأيته هناك .. 

وغداً حيث يحتفل عمال العالم بيومهم الأغر، وهم يمرون في ظروف قاهرة من جميع النواحي، فإن الحلم الذي زرعه ماركس في الأحداق، يظل اخضر مورقاً، زاهراً رغم انف الظروف، وأنف الطغاة.. فالأفكار العظيمة لاتموت. وهنا أستشهد بما قاله محمد حسنين هيكل في إحدى حلقاته التلفزيونية عن اللقاء الذي جمع جمال عبد الناصر وعلي صالح السعدي أمين سر قيادة حزب البعث العراقي، في القاهرة، بعد نجاح انقلاب شباط، حيث قام السعدي برفع كأسه، قائلاً لعبد الناصر : لنشرب ياسيادة الرئيس نخب القضاء التام على الشيوعية في العراق..

لكن عبد الناصر لم يرفع النخب- كما يقول هيكل- وبعد أقل من خمسة أشهر انتفض الشيوعي حسن السريع وعدد من رفاقه على سلطة البعث في العراق، واعتقلوا نصف قيادة حكومة شباط البعثية. وهنا اتصل عبد الناصر بالسعدي قائلاً: ما هذه ( الحركة ) يا علي ؟!

فقال له السعدي: ليست حركة يا سيادة الرئيس، إنما هم مجموعة من الصغار، وقد أخرجوا رؤوسهم من ( السرداب ) الذي كانوا يختفون فيه، فقطعنا لهم رؤوسهم !

فضحك جمال وقال له: طيب (يا سي علي)، وكم من هذه المجموعات التي لم تزل تحت الأرض، ولم تخرج رؤوسها بعد.. ؟

ثم اختتم عبد الناصر اتصاله قائلاً: هل تتذكر يا أخ علي، عندما طلبت مني رفع نخب القضاء على الشيوعية .. ولم أفعل؟.. لقد كنت اعلم أنك كنت مأخوذاً بنشوة النصر، وإن القضاء على الشيوعية كلام مبالغ فيه جداً، وقد سمعت الكثير مثله في حياتي، لأن الشيوعية كما عرفتها فكرة، والأفكار لا تميتها البنادق، ولاتقتلها الحِراب.

علق هنا