بغداد- العراق اليوم: كتب محمد داود سلوم :- كنت أتجاذب أطراف الحديث مع صديقةٍ لي فرنسية، وطلبت مني أن أروي لها بعضًا من ذكريات طفولتي في العراق، فقلت لها: كنا نسكن مدينة العمارة، وكان والدي يملك علوة يبيع فيها الحبوب وجعل قسماً منها دكاناً يبيع فيه الشاي والسكر والمعجون وكل حاجيات البيت والمطبخ، واشترى والدي دارا صغيرة تلاصق دارنا الكبيرة، ولا تحوي هذه الدار سوى غرفة واحدة والمرفق الصحي، وكان مطبخ ساكنيها موقداً محفوراً في وسط الغرفة التي ينامون فيها ويطبخون فيها ويأكلون فيها، وكانت الأم وزوجها ينامان على سرير مصنوع من جريد سعف النخيل، وبنتاهما وولداهما ينامون إلى جانب السرير. مات الرجل بعد مرض طويل، ولم تتمكن الزوجة من إعالة أطفالها؛ فباعت الدار لنا وذهبت إلى قرية في الريف حيث يسكن إخوتها ووالداها. لا أدري ماذا كان ينوي والدي أن يصنع بهذه الدار الصغيرة ولعله كان يخطط لإلحاقها بدارنا مستقبلا، ولكنه بدلا من ذلك أجَّرها إلى شرهان الشرطي، الذي سكنها مع زوجته وبنتهما الصغيرة. كان شرهان يعمل في سلك الشرطة ويرتبط بالقسم الذي يتابع المشبوهين السياسيين، وكان يعتاش من الحاجيات التي يشتريها من والدي بالدين، ويسكن الدار التي لم يدفع أيجارها لأشهر، وحين طالبه والدي بما عليه من دين تجمَّع من شراء الحاجيات، وكذلك إيجار الدار؛ طلب منه مهلة ولكنه وأنا أراه يخاطب والدي كان وجهه قد اكتسى بالغضب وخزرني بنظرة مخيفة. كان عمري آنذاك تسع سنوات وكنت في الصف الرابع الابتدائي، وكنت كل يوم أذهب للعب مع زميلٍ لي في بستان قريب، وقد أبتدعنا لعبة بأن ثقبنا علبتين من أسفلهما، وكانتا مفتوحتين من اعلى وعقدنا خيطاً طويلاً في كلتا العلبتين، بعد ان مررناه من الثقبين في القاعدة وكان زميلي يذهب بعيداً عني مختفياً تحت الأشجار حتى يتوتر الخيط المشدود بين العلبتين، ثم ابدأ أنا بالكلام في العلبة وهو يستمع بأن يضع فتحة العلبة الثانية على اذنه وكأننا نتخاطب بالتلفون وكنت أكلمه جملة يستمع إليها، ثم اضع فتحة العلبة على اذني ليجاوبني على ما قلت له. كانت لعبة أطفال فعلاً وكنا على الرغم من طول الخيط نسمع صوت أحدنا الآخر وهو يتكلم، ونحاول أن نعتقد أن الصوت كان ينفذ من العلبة إلى الخيط إلى أذن السامع. نوع من اللعب البسيط الذي يعتمد على خداع النفس، لا يلعبه إلا الأطفال البسطاء. وفي ليلة ظلماء وفي شتاء بارد جاء اثنان من الشرطة بملابس مدنية، واخذاني من بيتنا ووجد والدي صعوبة في الوصول إلي، وفي معرفة السبب، وأخبره جارنا المحامي الذي تعهد بالدفاع عني أمام المحكمة؛ بأنني متهم بنشاط مع الحزب الشيوعي، وان المخبر قد رفع تقريراً بذلك. كان المحامي يعرف القاضي الذي اطلعه على التقرير وكاتب التقرير وادركا سخف ما جاء فيه وقررا اللعب بالمخبر ومناقشته حول التهمة التي سجلها في التقرير. حاول الشرطي الاستعانة بمرؤوسيه كي يبقوا اسمه طي الكتمان، ولكن القاضي أصر على حضوره، وحين حضر إلى المحكمة سأله القاضي: - ما اسمك؟ - شرهان محيسن. - والآن يا شرهان أخبرني مع من كان يتكلم المتهم، وماذا قال؟ - كان يمسك بعلبة مربوطة بخيط يمتد إلى موسكو وهو يصيح: هالو موسكو؟ هل تسمعني؟ وكان شرهان قد تعلم بعض المفردات السياسية لأنه كان يتعامل مع المتهمين السياسيين؛ ولذلك فإنه أردف: لقد سمعته يقول: إن الرفاق بخير، وأن الحزب بخير، مع السلامة يا موسكو باي باي. فقال القاضي: - شرهان؟ أنت سمعته يقول: مع السلامة؟ يا موسكو باي باي! - نعم سيدي. فقال القاضي: شرهان! - نعم سيدي. - العن والديك - نعم سيدي - ووالدي والديك - نعم سيدي - والعن موسكو والذي جاء باسمها إلينا. ثم التفت إلي وقال: - اذهب يا ولدي والعب كما تشاء وكلم من تشاء كلم ستالين وهتلر وموسليني وإذا اتهمك شرهان بتهمة أخرى بأنك تكلم النازيين، أو الفاشيين سأضعه في السجن. ثم التفت إلى شرهان وقال له: هل سمعت يا شرهان؟ - إن والد الشاب الصغير قد قدم شكوى يطلب منك إخلاء الدار غداً فإن بقيت فيها إلى الغد سأسجنك وأعد تقريرك هذا كيدياً. - حاضر سيدي. وفي اليوم الثاني كان شرهان قد غادر الدار إلى طرف بعيد من المدينة، ولم يدفع ثمن ما اشتراه ولا ثمن أجرة الدار إلى اليوم. ولم يطالبه أبي ولم يلاحقه وعد ذلك نوعاً من الصدقة لخلاصي من تهمة كان يمكن ان تلحق بي الضرر وبمستقبلي، ولو حدث ذلك يا صديقتي؛ لما وجدتني أحدثك بهذه القصة؛ لأني ما كنت لأكمل دراستي واسافر إلى باريس لألتقيك هنا. فضحكت وقالت: "هالو برلين - هالو روما"
*
اضافة التعليق