بغداد- العراق اليوم:
رصدت واشنطن 25 مليون دولار مقابل رأسه، وقاد تنظيماً إرهابياً نفذ عمليات في داخل أمريكا نفسها وفي مختلف أنحاء العالم... هو أسامة بن لادن الذي ولد في 10 مارس 1957. فكيف كانت حياته قبل التطرف؟ وكيف أصبح الإرهابي الأول في العالم؟
يقول ستيف كول Steve Coll في كتابه "آل بن لادن وعالم النفط والمال والإرهاب" The Bin Ladens: Oil, Money, Terrorism and the Secret Saudi World إن أسامة هو ابن محمد بن لادن صاحب شركات بن لادن الشهيرة وصديق العائلة المالكة في السعودية، وأمه سورية أنجبته وعمرها 15 عاماً ثم تطلقت. دبر محمد بن لادن زواجها بأحد موظفيه فتربى أسامة في بيت والدته وزوجها مع أربعة إخوة غير أشقاء من الأم.
يوثق الكتاب في جزء من أجزائه حياة بن لادن بتفاصيلها، قبل أحداث الـ11 من سبتمبر. أمضى الصحافي الفائز بجائزة بوليتزر سنوات عدة في إعداد كتابه، وقابل مقربين كثر من عائلة بن لادن.
يروي ستيف كول تفاصيل كثيرة عن حياة بن لادن في طفولته وشبابه. في مرحلة المراهقة، كان بن لادن يتنقل بين عالمين. كان ينخرط مع عائلة بن لادن خلال النزهات ويظهر في شركات العائلة ويمارس كرة القدم وركوب الخيل مع أطفال الحي في جدة ويشغف بأفلام بروس لي، كما كان يسافر كل صيف إلى سوريا موطن أمه حيث كان يصعد الجبال، وحيث أحب ابنة أحد أخواله.
خلال دراسته الثانوية، صار بن لادن قادراً على جمع المال لشراء سيارات رائعة من طراز لينكولن أو كرايسلر، ولاحقاً اشترى سيارة مرسيدس رمادية. كان يقود سياراته بسرعة كبيرة وحطم واحدة منها على الأقل، كما كان له الحق في استخدام العربات الرباعية الدفع الخاصة بشركات العائلة.
أحب الذهاب إلى الصحراء للاسترخاء في أجازة نهاية الأسبوع مع أصدقائه وخيوله المحببة إلى قلبه. وقد قال أسامة بعد ذلك بسنوات إن ركوب الخيل كان هوايته المفضلة. كما كان يحب الذهاب إلى منازل الأسرة الشاطئية على البحر الأحمر للاستمتاع بالسباحة.
في الوقت نفسه، انغمس في أنشطة جماعة الدراسة الإسلامية في مدرسة الثغر النموذجية الثانوية، وهي الجماعة التي أسسها مدرس مصري ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. كما تابع دراسته في جامعة الملك عبد العزيز في جدة عام 1976.
وعن الشهادة الدراسية التي يحملها، ألمح أسامة في إحدى المقابلات إلى إنهائه دراسته الجامعية. ولكن وليد الخطيب، الذي كان يشرف عليه في شركة العائلة، أكد أنه لم يحصل على شهادة جامعية.
وفي السيرة الذاتية المقتضبة التي أعدها أسامة أو مساعدوه عام 1996 ذكر أنه درس الإدارة والاقتصاد في الجامعة. وقد عين مديراً في شركات بن لادن في مكة بعد تركه الجامعة.
وبصفة عامة، تمكن بن لادن، بحسب كول، بطريقة ما بين السادسة عشرة من عمره والحادية والعشرين من الدمج بين إيمانه الديني وحماسه لاقتحام مجال الإدارة وعشقه للنزهات، إضافة إلى رغبته في الزواج، وحقق كل تلك الأهداف بعد عام 1973.
توفي والد أسامة في حادث طائرة عام 1967، وتقول والدته إن أخاه الأكبر سالم كان بمنزلة الأب له في هذه الفترة رغم اختلاف اهتماماتهما إذ إن سالم كان يدخن بشراهة بما في ذلك في رمضان، وخارج السعودية كان يتجه إلى حياة اللهو فيتناول الكحول ولحم الخنزير، ولكن في السعودية كان يتخلى عن الجينز ويرتدي الثوب السعودي وغطاء الرأس، ولم يذكر عنه أنه أم المصلين يوماً، كما أنه أدخل أصدقاءه من غير المسلمين مكة والمدينة سراً.
شهد عام 1973 بدء تواصل أسامة مع الجماعات الإسلامية وكان في الخامسة عشرة من العمر. فسر تحوله أو انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين في هذه المرحلة العمرية بأنه الانتقال الطبيعي للمسلم الحق.
ولم يكن التزام أي شاب بتعاليم الإسلام أمراً غير عادي في المملكة التي يغلب عليها الطابع الإسلامي في كل شيء. بل أصبح أسامة هو نموذج الالتزام الديني في عائلة بن لادن التي اعتبرته إمام الأسرة وواعظها.
ولكن صديقه الصحافي جمال خاشقجي يقول إنه كان أكثر أصولية من زملائه في جماعة الإخوان المسلمين، فقد بدا أكثر ميلاً للملابس والعادات التي كانت منتشرة في حياة النبي، وقد وبخ في إحدى المرات صديقه خالد باطرفي لارتدائه الشورت في مباراة لكرة القدم، الأمر الذي يتنافى مع الشريعة التي تفرض على الرجال ستر جسدهم من الركبة وحتى الصرة. كما بدا مصراً على تعريف المبادئ الإسلامية للآخرين في تعاملاته اليومية.
دل انخراط أسامة المبكر في جماعة الإخوان المسلمين على أن استيعابه للإسلام من البداية تأثر بالرسائل السياسية، فقد ناصر أعضاء الجماعة فكرة الانتقال إلى الحكم الإسلامي القويم.
وصل فكر الجماعة للسعودية من خلال نفي الكثير من نشطائها للمملكة، وقدم العلماء والكتاب المتأثرون بها أفكاراً عن الحكومة الإسلامية القويمة ومتى يمكن تبرير العنف، وكان لديهم وجهة نظر هي أن الخطب وتعليم مبادئ الدين بمثابة حصن لهم. تناسب أسلوب الهداية هذا مع مدرسة الفكر السلفي السائدة في المملكة.
كانت النساء من الموضوعات المرفوضة تماماً لدى بن لادن. وقد لاحظ صديقه باطرفي أنه ينجذب إلى الفتيات، لذلك قرر بن لادن الزواج ليعف نفسه فتزوج ابنة أحد أخواله، وكان عمره 17 عاماً وعمرها 14 سنة.
لم يكن يسمح لزوجته بلقاء الغرباء، وكان يغض بصره عن خادمة الأسرة، وعندما كان يزور أحد إخوته كان يبتعد ويغطي عينيه إن فتحت امرأة غير محجبة الباب له ولم يكن يصافح النساء.
تخرج بن لادن من مدرسة الثغر عام 1976 ولم يظهر في الصورة الملتقطة للطلبة والمدرسين بمناسبة التخرج، فقد كان التصوير الفوتوغرافي من الابتكارات التي يرفضها لأنها تجذب أنظار الناس لأشياء من خلق الإنسان، أي أن الصور تتعارض مع وحدة الله. كما أعلن رفضه للآلات الموسيقية في تلك الفترة لأنها تلهي عن الصلاة ولم يدخن قط، ومنع صغاره من مشاهدة مسلسلات ديزني وبرنامج افتح يا سمسم كما منع أغلب البرامج التلفزيونية للسبب نفسه المتعلق بتحريمه التصوير الفوتوغرافي، ولكنه كان يتابع البرامج الإخبارية.
بعد أحداث عام 1979 وأبرزها حادثة الحرم المكي، والثورة الإيرانية والغزو السوفياتي لأفغانستان، أُجبر جميع أفراد عائلة بن لادن على أخذ السياسة الخارجية في الحسبان، فقد كان الحفاظ على المصالح الذاتية العامل الذي حرك العائلة أكثر من الأيديولوجية.
وكان أفراد عائلة بن لادن في أحيان كثيرة الأدوات التي استخدمتها المشروعات السرية للسياسة الخارجية السعودية، ووجد ولي العهد السعودي الأمير فهد في الحرب الأفغانية حلاً رائعاً لتوجيه أنظار الإسلاميين خارج حدود المملكة، فاتجه لدعم الثوار الأفغان ضد حكومة كابول بملايين الدولارات، كما أصدر أوامره بتزويد ضحايا الحرب الذين يفرون إلى باكستان بالمساعدات الخيرية.
وفي نوفمبر 1980 ذهب أسامة بن لادن لأول مرة إلى باكستان معلناً عن نفسه كناشط خيري. وقد مثلت هذه المرحلة أحد أنماط علاقة أسامة بحرب الأفغان بين عامي 1980 و1983، إذ كان ينتقل ذهاباً وإياباً لنقل الأموال وعقد الاجتماعات.
أقام علاقات في باكستان من خلال عدة شبكات هي شبكة الإخوان المسلمين التي كان عضواً فيها، والشبكات الخيرية المكونة من تجار جدة وأسرته، وشبكة الاستخبارات السعودية. ويتذكر جمال خاشقجي أنه في السنوات الأولى لحرب الأفغان تمثلت الخطة في تقديم المخابرات السعودية الدعم العسكري بينما تقدم الجهات الخيرية والناشطون الدينيون الدعم الإنساني والإعانات إلى جانب الاستخبارات الأمريكية والباكستانية.
واعترف أسامة لاحقاً بأنه عمل خلال هذه السنوات بما يتفق مع السياسة السعودية السرية، وكانت إحدى المهمات المنوطة به ألا يقبض عليه، لذلك جاءته تعليمات من الرياض بعدم دخول أفغانستان حتى لا يقبض عليه، فيعد ذلك دليلاً على الدعم السعودي للمجاهدين ضد الاتحاد السوفياتي.
في باكستان، توطدت علاقته بالفلسطيني عبد الله عزام أحد علماء الإخوان المسلمين، وكان قد درس أسامة في جامعة الملك عبد العزيز التي أوفدته عام 1981 في بعثة لمراقبة المنهج الدراسي في الجامعة الإسلامية في العاصمة الباكستانية إسلام آباد.
وفي عام 1984، افتتح القائد الأفغاني عبد رب الرسول سياف، الوثيق الصلة بالاستخبارات السعودية، أول معسكر تدريبي رسمي للمتطوعين العرب، وكان اسمه معسكر "الصدى" قرب الحدود الباكستانية، وكان بوسع أثرياء السعودية والخليج الوصول إليه بسهولة، حيث يشاهدون بعض الاستعراضات القتالية ويتبرعون بالأموال. وفي هذا العام دخل بن لادن أفغانستان لأول مرة.
انتقل عزام إلى بيشاور في أكتوبر عام 1984 لتأسيس مكتب الخدمات لدعم المجاهدين الأفغان وخدمة المتطوعين العرب الذين سافروا للحرب، وكانت مهمة المكتب تجمع بين العمل الخيري والتسويق. وكان بن لادن يتبرع للمكتب بمبالغ نقدية تراوحت بين 200 ألف و300 ألف دولار سنوياً.
كان عزام أول من عرّف بن لادن إلى مفهوم الجهاد الممتد إلى ما وراء الحدود، فالعدوان الذي يتعرض له المسلمون في أفغانستان على يد السوفيات وفي لبنان وفلسطين على يد الإسرائيليين يجعل الجهاد فرض عين على جميع المسلمين.
وعن الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 يقول بن لادن "ما زلت أتذكر تلك المشاهد الرهيبة وكلما نظرت إلى أنقاض الأبراج في لبنان خطر في بالي تعذيب الطغاة بالطريقة نفسها عن طريق تدمير الأبراج في أمريكا حتى يتجرعوا من الكأس التي تُسقى للآخرين".
عام 1986 بدأ تحول أسامة صوب النشاط العسكري والتدريب. طلب من أخيه سالم مساعدته في الحصول على أسلحة، فقام الأخير بإمداده بصواريخ مضادة للمروحيات ومواد تصنيع ذخيرة اشتراها من أمريكا الجنوبية. وفي تلك الفترة بدأت إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان تقديم مساعدات مباشرة للمتطوعين العرب في بيشاور.
وكانت السعودية قد أبرمت في أواخر عام 1985 صفقة اليمامة مع بريطانيا وبلغت قيمتها مليارات الدولارات. شكلت هذه الصفقة المظلة التي وفرت الدعم للعديد من برامج السعودية السرية المناهضة للشيوعية، بما في ذلك السلاح الذي جلب من مصر ودول أخرى وأرسل للمجاهدين.
عام 1986، أقام بن لادن معسكراً صغيراً للتدريب في قطاع جاجي داخل أفغانستان، وكان عدد المتطوعين فيه صغيراً. وقد أرسل عزام متطوعين عرباً لحماية بن لادن حتى لا يقع بيد السوفيات.
ذات مرة ذكر أسامة بصورة عابرة أن التاريخ سيثبت لنا أن أمريكا قدمت الدعم لأي فرد حارب ضد الروس، وتلك كانت المرة الوحيدة التي تحدث فيها بإيجابية عن الدور الأمريكي.
ورداً على ما تردد بأنه كان عميلاً للمخابرات الأمريكية قال بن لادن: "إنها محاولة من الأمريكيين لتشويه صورتي وأحمد الله أنه أحبط مؤامرتهم".
من ناحية أخرى، يشير الكتاب إلى اعتراف مسؤولين سعوديين رفيعي المستوى، ومنهم الأمير تركي بن عبد العزيز رئيس المخابرات السعودية حينئذ، بأن حكومتهم تعاونت بصورة تكاد تكون مباشرة مع بن لادن.
كان عام 1988 حاسماً في تحولات بن لادن. ففي 28 مايو 1988 لقي سالم بن لادن حتفه في حادث تحطم طائرة بالولايات المتحدة، ففقد أسامه أحد داعميه الأساسيين ومموليه في بيشاور. كما أن توقيع الاتحاد السوفياتي اتفاقية جنيف في إبريل 1988 للانسحاب من أفغانستان أفقده شعوره بالهدف الذي حمله إلى هناك.
شهد ذلك العام أيضاً تصاعد النزاع بين الجهاديين المصريين في بيشاور وعزام، إذ انتقد المصريون فكر عزام وأكدوا تمسكهم بعقيدة التكفير التي يحكم بمقتضاها على المسلمين المرتدين عن الملة بالإقصاء أو حتى القتل الجماعي.
وفي أغسطس من العام نفسه ظهر تنظيم القاعدة في بيشاور، أي بعد وفاة سالم بثلاثة أشهر فقط، ليبدأ أسامة السير في الطريق الذي عرفه به العالم، والذي انتهى بمقتله في 2 مايو 2011 في باكستان.