شيوعيّون من (نوعيّة) خاصة ..!

بغداد- العراق اليوم:

 فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة

ليس كل الشيوعيين العراقيين قرؤوا رأس المال وأصل العائلة والمادية الديالكتيكية، وفهموا ماركس  وآنجلس، فهماً علمياً وافياً، ولا كل الشيوعيين نالوا نصيباً تعليمياً عالياً، لاسيما وأن أغلبهم لم تتح له الفرصة لاستكمال تعليمه العالي.. رغم أن الجمهور الشيوعي- وهذه حقيقة- هو  الأكثر حضوراً في المشهد الثقافي العراقي، والأبرز وعياً، وقدرة على التفكير، والتحليل، والمنطق..

لذا يصبح من الطبيعي أن تجد بعض الشيوعيين والأنصار قد تعلقوا بهوى الحزب لأسباب ليست بالضرورة أن تكون علمية محضة، أو متعلقة بأسس النظرية الماركسية. فثمة من انتمى للحزب لأسباب وطنية، باعتبار أن الحزب الشيوعي حزب وطني لا يختلف حول وطنيته اثنان حتى لو كانا مجنونَين، والبعض سار خلف موكبه المضيء، حباً بتاريخه النضالي المجيد، بينما مشى البعض الآخر  في طريقه التقدمي، بسبب انحياز الحزب لمصلحة الفقراء، وثمة من انتسب له بسبب وقوفه في طليعة القوى المدافعة عن الاستقلال، والحرية، وحق الإنسان في الحياة، والتعبير، والرأي، فضلاً عن ما يتمتع به الحزب الشيوعي من سمعة طيبة في موضوعات النزاهة ونصاعة اليد، والأمانة، ناهيك من إيمانه بالمساواة والعدالة الاجتماعية، وحقوق المرأة ودفاعه عن السلام العالمي.

لهذا، تجد أنصاره يحبونه، ويعشقونه عشقاً فريداً، فيضحون بحياتهم فداءً لسمو رايته الحمراء، حتى وهم خارج تنظيماته الحزبية !

قد يختلف أعضاء ومؤيدو الحزب الشيوعي العراقي في المستويات الثقافية والعلمية فيما بينهم، لكنهم يتساوون في حبهم، وولائهم المطلق لحزبهم، وشعاره الخالد:

(وطن حر وشعب سعيد)، وقد أثبت التاريخ عمق ولائهم، وصدق حبهم وعشقهم له.

لقد تعرفت في علاقتي التي تجاوزت الـ 50 عاماً مع الحزب الشيوعي على الكثير من هؤلاء الأنصار  المخلصين،  الذين ربما لم تتح لهم الفرصة لمعرفة ودراسة نظرية ماركس لكنهم مؤمنون ايماناً حاسماً بحتمية التاريخ، وانتصار القيم الاشتراكية، وتحقيق المثل الإنسانية العليا، وبناء المجتمع الشيوعي القادم.. وقد احتفظت في خزانة قلبي بصور مختلفة ومشاهد وأحداث ووقائع كثيرة عنهم.. صور لأشخاص أحبوا الحزب حباً عظيماً، ولم تبارح هذه الصور ذاكرة قلبي أبداً، رغم تعرض ذاكرتي للكثير من التدمير بسبب تقدم العمر، لكنها ظلت متشبثة بتلك الوجوه ..

وكي لا تضيع في زحمة الزمن، قررت أن أسلط الضوء على كل وجه من هذه الوجوه النبيلة في مقال خاص. وسيكون مقال اليوم عن شاعر شعبي (شيوعي) اسمه منعم الربيعي.. وقد كان  منعم صديقاً لي وللشاعر كريم العراقي، رغم أنه يكبرنا بخمس سنوات تقريباً.. وكان أيضاً صديقاً للشاعرين كاظم اسماعيل الگاطع، وعريان السيد خلف، والقاصّين داود سالم وعبد جعفر، والشاعر والفنان رحيم العراقي، وصديقاً لعدة شعراء وادباء من مدينتنا.

كان منعم الربيعي شاعراً جيداً، وعاملاً كادحاً، وشخصاً محباً للحزب الشيوعي.. وهنا أذكر أن أحد الشعراء البعثيين رد بشكل مسيء على قصيدة (شتريد تسمي سمينه) للشاعر عريان السيد خلف، قائلاً لعريان وحزبه الشيوعي: أسميكم كذا وكذا، وقد أدرج في هذا الرد كل مافي قاموس البذاءة من مفردات معيبة. ولم ينتظر منعم الربيعي، فأسرع متصدياً له بقصيدة قوية، مخاطباً فيها عريان بأبيات، أذكر منها: (أسميكم ورد جوري وهرش طينه.. وزلال الماي لو نشفت شواطينه

وذخر عمري لوَن زل الوكت بينه.. واسميكم واسميكم الى آخر هذه القصيدة المزدحمة بمعاني الحب والوفاء الجميل)، فكان هذا الرد من قبل منعم الربيعي مفاجئاً للكثير من الشعراء آنذاك، ليس لأن منعم شخص بسيط طيب لم يعرف عنه مثل هذه المواقف الجريئة فحسب، إنما لأن البعث كان وقتها في أوج قوته وعنفه وشراسته أيضاً، إذ كيف لشاعر (فقير) مثله يتصدى لشاعر له قوة السلطة ونفوذ البعث، فيضع نفسه في هكذا موقف خطير، في الوقت الذي صمت فيه (الكبار)، ولم يتصدَ أحد منهم ؟!

وفي المقابل، فإن لصديقنا منعم الربيعي سلبيات أيضاً، فقد كان ذا خيال (خصب جداً) يسمح له بالتحليق عالياً، حين يريد وصف الوقائع، أو نقلها، ويميل الى المبالغة في التعبير عن الأشياء جاعلاً من (الحبة قبة) أحياناً.. لذلك كان (المشاكس) رحيم العراقي يقف بالمرصاد لمبالغاته البيضاء، ويتصدى لها بتعليقاته الفكهة، بينما كان الربيعي يقابل مشاكساته بالابتسامات، ولم اره يوماً غاضباً او رافضاً، بل على العكس، فقد كان يستفز رحيم أحياناً من أجل أن يحظى بتعليق، أو  نكتة، أو ببيت شعر يطلقه ضده رحيم !

واذكر أن منعم ذهب الى المركز  الثقافي السوفيتي في بغداد قبل حوالي 50 عاماً، ليحضر عرض فيلم (الحرب والسلام) عن رواية تولستوي، واخراج (سيرغي بوندارجوك)، بعد نيله جائزة الاوسكار، ورغم أننا جميعاً شاهدنا الفيلم، وفي المركز ذاته، إلا أن منعم أسبغ على الاخراج والتمثيل هالة وتوصيفاً خيالياً فائضاً، هو دون شك ناتج عن حبه وانحيازه للحزب الشيوعي والمعسكر الاشتراكي ..

أما عن فرحته العظيمة برؤية عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عامر عبد الله في قاعة المركز الثقافي ذلك اليوم، فحدث عنها بلا حرج، إذ راح يصف لنا ملابس عامر عبد الله، واشراقة وجهه، وابتسامته العريضة له، وكلماته المرحبة، وكيف مد له يده مصافحاً عند باب المركز، وكيف وكيف وكيف، حتى شعرنا أن صاحبنا قد أصيب بمس جنوني !. لقد كنا نعيش مع منعم مثل هذه المفارقات كل يوم تقريباً، وكان بيت الشاعر كاظم الكاطع مسرحها في أغلب الاوقات، لكن أمراً أدهشنا وأثار استغرابنا، مفاده، أن أكثر من رفيق كان يقدم طلباً يرشح فيه الصديق منعم الربيعي لصفوف الحزب الشيوعي، وكانت هذه الطلبات ترفض من قبل الحزب، أو  لا تحظى بإجابة واضحة، واحياناً يعود الجواب حاملاً كلمتين: (يُرجى التأني)!

ثم يُهمل الأمر ويُنسى.

وللحق، فإن الحزب كان بشكل عام، حريصاً على عدم الافصاح عن سبب الرفض لأي طلب انتماء لصفوفه، احتراماً لمشاعر الشخص المعني بالطلب، وحرصاً على سمعته، لاسيما وأن أكثر اسباب الرفض تتعلق ببعض الملاحظات حول اخلاق وسلوك المعني، أو حول علاقته بحزب السلطة، أو  قربه من أحد الأجهزة الأمنية، وقد يتأثر هذا (التقييم) أحياناً بالمواقف الخاصة، واحياناً بالرأي الشخصي والمزاجي للجهة المقيّمة، وربما تعرّض (تقييم) منعم لمثل هذا التأثير الشخصي !

وطبعاً، فإن منعم لم يكن يعرف مصير طلباته، لكنه - من المؤكد - قد شعر أن ثمة شيئاً ما يحدث حول أمر انتسابه للحزب.. لكنه لم يسأل عن ذلك مطلقاً، كما أن الأصدقاء والرفاق كانوا يخفون عنه أجوبة الحزب الرافضة، حتى اكتشف بالصدفة أن طلبات انتسابه رفضت. وبدلاً من أن يزعل على الحزب، زعل على نفسه.. ويقال إنه تقيأ دماً في الحال، وعزل نفسه في بيته، منقطعاً عن العالم، ثم راح  يذوي (كما تذوي الزنابق في التراب)، ليرحل بعدها الى أبديته حزيناً، لكنه ظل عاشقاً، ومخلصاً للحزب حتى اللحظة الأخيرة من حياته.

لذا، أتمنى على المكتب السياسي للحزب الشيوعي الموقر، أن يبادر الى منح الراحل منعم الربيعي، عضوية الحزب الشرفية، ليستريح خاطره، وتسعد نفسه الحزينة... فقد كانت (العضوية) أمنيته الأولى والأخيرة !!

علق هنا