ماذا فعل الفتى الارجنتيني المجنون .. ؟

بغداد- العراق اليوم:

فالح حسون الدراجي

افتتاحية جريدة الحقيقة 

هل تخصصت الأرجنتين بإنتاج الأساطير، وابتكار الظواهر البشرية الخارقة.. وهل يمكن اعتبار  ما أحدثته الأرجنتين من معجزات مادية ملموسة وحيّة خلال العقود الستة الأخيرة،  أمراً طبيعياً يمكن أن يحدث مثله في أي بلد مشابه.. وإذا كان الجواب (نعم)، فلماذا لم يحدث مثله في دول أخرى من العالم ..  بمعنى لماذا لم نرَ مثل الثائر الكوني جيفارا، واللاعب الاعجازي مارادونا، والساحر ميسي - والثلاثة ارجنتينيون من الوريد الى الوريد ؟!

والسؤال الذي يحضرني الآن : هل أن أرجنتينية جيفارا ومارادونا وميسي جاءت مصادفة، أم هو استحقاق ارجنتيني تأسس وتحقق على ركائز  تاريخية وجغرافية ومادية قوية.. وإذا كان للصدفة دور في صناعة أحد هذه الأساطير، فكيف تتكرر وتتعدد هذه الأساطير والظواهر في بقعة واحدة ومحددة دون غيرها من البقع المجاورة؟

نعم، كيف أنجبت الارجنتين دون غيرها ثلاثة من الأفذاذ الذين لا يتكررون بعد الف جيل وجيل، لتقدمهم (هدايا) ثمينة الى الإنسانية؟

إن ما يجعل الأرجنتين استثناء لا يتحدد فقط في ارجنتينية جيفارا ومارادونا وميسي، إنما أيضاً بـ(نوعية) الناس في هذا البلد.. إذ وعلى الرغم من بؤس المستوى المعيشي في هذا البلد، وهو بؤس يكاد يجعل الحصول على رغيف الخبز لدى بعض الفئات الشعبية، أمراً صعباً وعسيراً، لكنك تجد هذه الفئات ذاتها، تفعل المستحيل من أجل أن تحضر مباريات منتخبها الوطني، حتى لو كانت في ملاعب (الواق واق)، أو (الواق دوحة)..إنها الوطنية الحقيقية  يا نور زهير !

والسؤال: ماذا فعل (المجنون) ميسي في مباراة ختام بطولة كأس العالم، أمام فرنسا؟

والجواب يعرفه الجميع، بعد أن أوقف ميسي الكرة الارضية على (قرن ثور) مجنون لمدة ثلاث ساعات، ثم جعل القارات السبع تخرج الى الشوارع (حافية القدمين)، وهي تهتف بأعلى أصواتها: بالروح .. بالدم نفديك يابو المس.. كما تدعو له بالنصر، والظفر بالكأس.. 

وأشهد أمام الجميع أني رأيت الروس والأمريكيين والأوربيين من (المحيط الى الخليج)، والافارقة والآسيويين، وسكان القطبية الجنوبية، واستراليا وغيرهم، ينشدون بلسان واحد "يلعب أبو تياغو هو ولواعيبه”

 وللحق، فإن قبل (أبو تياغو) ما اجتمعت البشرية يوماً على امر ، ولا اتفقت على موقف قط، سواء أكان الأمر خيراً أو شراً.. إلّا خلال الساعات التي استغرقتها مباراة الارجنتين وفرنسا.. حين وقفت البشرية  (كالبنيان المرصوص) خلف الزعيم ميسي، وأمام أمنية واحدة: هي فوز الفتى الخجول بكأس (جول ريميه). 

في لُجة بحر الحياة وغماره، وأمواجه العاتية، واشتداد المطامع والمطامح البشرية، وخضّم الصراعات الدولية، والخلافات السياسية، والمنافسات الاقتصادية، تجد من الطبيعي أن لا يحصل الاتفاق بين البشر حول هدف واحد  .. فالتماهي أو التوحد حسب مفهوم (فرويد) يحتاج الى منظومة سايكولوجية وزمنية متكاملة، تبدأ حلقاتها منذ الطفولة، وتتكامل مع تكامل الشخصية واستكمال تأسيساتها. لذا، قد تجد أخوين شقيقين يختلفان حول عقيدة آيدلوجية، أو انتماء سياسي، معين، بل ويختلفان حتى على تشجيع فريق رياضي، فهذا مثلا يشجع فريق برشلونة، وأخوه يشجع ريال مدريد.. وهكذا تتقاطع الرغبات والمزاجات حول عشرات القضايا الخلافية الأخرى.. وعليه استطيع القول، إن التباين في الرؤى والافكار والعقائد والانتماءات والأهواء أمر طبيعي جداً، ولا يعد عيباً أو خللاً أبداً.. بل أرى أن التوحد والتطابق الهندسي المطلق بين الأقوام البشرية، هو الأمر غير الطبيعي، واللحن النشاز في منظومة الألحان الإنسانية..

لقد فشل (خطر ) هتلر مثلا في توحيد العالم ضده، رغم أن مشروعه كان مشروعاً نازياً، تدميرياً، يسعى الى إبادة أجناس بشرية بكاملها، حيث يفترض هنا أن تتوحد الشعوب وتصطف في مواجهته، لكن - رغم ذلك - اختلف العالم في الموقف من هتلر وخطره على البشرية، مثل موقف (ايطاليا موسوليني) المؤيدة لهتلر، حتى أنها قاتلت الى جانبه في الحرب العالمية الثانية، وثمة بلدان عديدة، وجيوش عدة، وقفت مع هتلر، وساندته في حربه العدوانية ضد شعوب الاتحاد السوفيتي وفرنسا وامريكا وغيرها، وهو موقف غريب طبعاً، لكنه سيصبح طبيعياً في ظل التناقضات البشرية والدولية.. 

لقد أردت أن أقول، إن مشروعاً تدميرياً، معادياً للإنسانية مثل مشروع هتلر، لم يتمكن خطره من توحيد البشرية في اتفاق واحد يتمثل بازدراء النازية ومقاومة الفاشية، ومحاربتها وادانتها، لكننا وجدنا من يقف معها ويؤيدها، ويقاتل تحت رايتها !

  وحتى مخاطر جائحة كوفيد (كورونا) القاتلة، لم تستطع توحيد الكوكب البشري خلف شعار مواجهتها، إذ كثيراً ما رأينا الصين تعزف البيات، واليابان تعزف السيگاه، بينما أوربا تغرد على نغمات مقام البنجكاه، فتتشتت بذلك الأسماع البشرية، وتتخالف المقامات ( الصحية) بين هذا وذاك من بلدان العالم.

 إذن، فالتوافق والتطابق بين الدول، والبشر، أمر مستحيل، إلا في أمسية ميسي قبل يومين فقد تحقق التوافق لأول مرة: حين توحد الكوكب البشري بكل تنوعاته والوانه ونجومه ومجراته حول هدف واحد، وأمنية واحدة، تتمثل بفوز ميسي بكأس العالم.. ولا أعرف كيف تناسى الروس خلافاتهم وحربهم مع الاوكرانيين، فتعانقوا معهم في (عرس) ميسي، وكأن شيئاً لم يكن بينهم قط، ولا أعرف لماذا أوقف العمال صراعهم الطبقي المرير مع القوى الرأسمالية، لثلاث ساعات  حتى امتزجت نداءاتهم وصيحاتهم المجنونة بنداءات وصيحات (مستغليهم)، ولا أعرف كيف رمى انصار الريال واتليتكو، واشبيلية، وغيرها من الاندية التي كان يذيقها ميسي مر العذاب في الليغا الاسباني، تعصبهم، وخصوماتهم في سلة المهملات - ولو بشكل مؤقت- وراحوا يطلبون الفوز للأرجنتين ولو تحت عنوان (خطيه ميسي هاي آخر بطولة يلعبها) !!

ولا أعرف لماذا يتظاهر الناس فرحاً في الكرادة والمنصور، والقاهرة والاسكندرية وأم درمان، واللاذقية وطرابلس ونيودلهي وكراتشي وأثينا وطهران وروما، وحتى في باريس ذاتها، بل وفي جميع مدن العالم بعد فوز ميسي، ولماذا تفتح مدينة وجدة المغربية حدودها المغلقة مع الجزائر، أمام محبي ميسي  الجزائريين، فتستقبلهم بأغاني (الشاب خالد) الباهرة، ولعل السؤال الأروع: كيف اشتعلت سماء مدينة الثورة بالرصاص الخارق والحارق والمذنب فرحاً بعد أن ارتدى (الشيخ) أبو تياغو عباءة الفوز يوم امس الاول، وكأنها ليلة عرس فتى دراجي !

ولعل أشد ما أثارني، دموع اللاعب (دي ماريا)، وأكثر ما أعجبني جوابه على سؤال لإحدى مذيعات التلفزيون الارجنتيني: لماذا بكيت يا دي ماريا؟

- بكيت من اجل ميسي!

- تقصد من أجل الارجنتين!

- نعم سيدتي بالضبط، لأن ميسي عندنا يعني الأرجنتين!

أما الحاجة (أم ياس) في منطقة الكفاح البغدادية، فقد (حرگت الجو بالهلاهل) والچكليت بعد نهاية المباراة، وحين سالتها جارتها (ام قدوري) عن السبب، فقالت: هاي كلها لخاطر (جيمسي) .. احنه والعباس أبو فاضل نموت على (جيمسي)!!

نعم، لقد كان الجميع في المنطقة سعيداً وفرحاً بفوز الارجنتين، إلا صديقنا لؤي أبو اللول، فقد كان يقول بتهكم: يابه والله خبصتونا بميسي، هسه هو لاعوبيش!

وحين سألته عن عيوب ميسي الكروية التي جعلته ( لاعوبيش ) ؟

فقال لي: لأن مرته مو حلوة (عبالك جريدي) - يقصد جريذي !

فقلت له ضاحكاً: لا، بهاي حقك أبو اللول.. هو فعلاً مو خوش لاعوب، مادام مرته مو حلوة (وعبالك جريدي)!

علق هنا