بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة أمس، تحدثت مع قائد عسكري عراقي كبير تقاعد قبل سنوات قليلة، وبعد السلام والكلام، سألني قائلاً: كيف سيكون العراق برأيك لو تسلم الشيوعيون مقاليد الحكم قلت له: متى؟ قال: لو تسلموها الآن ! فقلت له ضاحكاً: وهل لديك النية للقيام بانقلاب عسكري، تضعهم بعده على منصة السلطة ؟ فقال : أتمنى ذلك من اعماق قلبي، ولكن المشكلة أني لا أؤمن بالانقلابات اولاً، ثم لا أملك القدرة على القيام به، فضلاً عن أن ثقافة الشيوعيين ترفض المجيء إلى السلطة على ظهر دبابة، رغم أنهم جاؤوا عام 58 على ظهر دبابة عبد الكريم قاسم! فضحكت وقلت له: حتى أنت ايها القائد الخبير، والعسكري المتخصص، تقع في نفس الخطأ الذي يقع فيه عامة الناس؟ فقال مستغرباً: أي خطأ وقعت فيه لا سمح الله، الم تكن السلطة في يد الشيوعيين بعد نجاح ثورة الرابع عشر من تموز 58 ؟ فقلت: لا طبعاً، لم يتسلم الشيوعيون السلطة بعد ثورة تموز، ولا قبلها، ولا اعرف كيف دخل هذا الخطأ وعشش في أذهان الناس، بحيث تتبادله الاجيال جيلاً بعد جيل. إنّ في هذا خطأً يتعرض له تاريخ الشيوعيين بقصد وبدون قصد .. لقد تمت ثورة 14 تموز بفعل وتدبير تنظيم الضباط الأحرار ، وفي هذا التنظيم، عدد من الضباط الشيوعيين والبعثيين والقوميين والمستقلين، أما الحكومة فقد كانت بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم، ولم يكن للحزب الشيوعي في هذه الحكومة سوى وزير واحد تمثل بالدكتورة نزيهة الدليمي بينما نصف هذه الحكومة قد شغلها وزراء معادون للشيوعية! فصاح قائلاً: معقولة ؟! قلت له: في الحقيقة، هي غير معقولة، لكن للأسف هذا هو الواقع الذي كان، وهذا ما حصل بالفعل، وإذا راودك شك في صحة معلوماتي، اذهب للعم (غوغل) واسأله عن ذلك! وازيدك من الشعر بيتاً، أن عدد الشيوعيين في السجون والمعتقلات في عهد عبد الكريم قاسم كان خمسة أضعاف مجموع معتقلي وسجناء كل الأحزاب العراقية الاخرى، كحزب البعث والقوميين الناصريين، والحزب الوطني وغيرهم. لقد روى لي الصديق جمال زيا جميل الذي كان معتقلاً في الموقف العام- القلعة الرابعة- عام 1962 أن أعداد الشيوعيين المعتقلين قياسا إلى عدد المعتقلين من الأحزاب الأخرى كبير جداً بدليل أن اغلب قلاع سجن الموقف العام كانت مخصصة للمعتقلين الشيوعيين، بينما لم يشكل بقية المعتقلين السياسيين من الأحزاب الأخرى اكثر من قلعة واحدة، يضاف إليها قلعة اخرى للسجناء العاديين، وقد كان السجن يضم مئات الموقوفين من بينهم الشهيد حمزة سلمان عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي والشاعر الكبير مظفر النواب ومطرب المقامات البغدادية فاضل رشيد وغيرهم من الاسماء الشيوعية اللامعة. ولعل من المفيد ذكره هنا، أن البعثيين حين جاؤوا للسلطة بانقلابهم الدامي في شباط عام 1963 وجدوا أمامهم في السجون والمعتقلات مئات الشيوعيين الجاهزين، مما وفر عليهم جهود البحث والتفتيش والمطاردة، وقد أعدم الانقلابيون للأسف المئات من هؤلاء المعتقلين . لكن الشيوعيين رغم ذلك، ساندوا الزعيم، وتصدوا بقوة للانقلاب الأسود، وقاتلوا باستماتة دفاعا عن الزعيم، وعن مكتسبات ثورة تموز العظيمة، وظل الشيوعيون والفقراء من سكنة الصرائف، وعمال المساطر والكسبة يقاومون الدبابات الانقلابية، ورشاشات بور سعيد المصرية، بالعصي والسكاكين، حتى بعد استشهاد الزعيم قاسم. وهنا أوقفني صديقي القائد قائلا : أنا لم أقصد الإساءة إلى الحزب الشيوعي وحاشا أن أسيء إلى الجهة الوطنية التي لم تتلوث ايديها بأموال العراقيين، ولا بدمائهم، وسأكشف لك سراً وأقول، إني كنت صديقا للكثير من الشيوعيين، ولم انقطع عنهم حتى وهم في المعتقلات أو في بلدان المهجر، فأنا من اشد المعجبين بالحزب الشيوعي العراقي وبنزاهته، ووطنيته، وثقافة أعضائه وإنسانيتهم، لذلك أتمنى أن يتسلموا قيادة سفينة الدولة، وإنقاذ البلاد، إذ لا أعتقد أن ثمة يداً، اكثر امانة وحرصا على العراق وشعبه وأرضه ومقدراته، من اليد الشيوعية البيضاء. ثم أكمل صديقي حديثه متسائلاً: هل تتخيل كيف سيكون العراق حين يكون رئيسه ووزراؤه وقيادته ومسؤولوه جميعا من الشيوعيين، هل ستجد مكاناً في بنية النظام الشيوعي يمكن أن يأوي فايروس المحاصصة، أو يقبل الفساد، أو يسع للرشى، أو (لسرقة قرن)، أو حتى (سرقة سنة) او شهر ؟. وهل تتوقع كيف ستكون حالة الثقافة والصحافة والفنون والرياضة والصحة والتعليم والمرأة والطفولة، والتقاعد، لو كان الشيوعيون يتولون مقاليد الدولة، ويديرون شؤون بلادنا؟.. ثم اكمل قائلاً: آه لو تُغمض عينيك كما أغمضهما الان لتتخيل معي الصورة - الحلم - وترى في إطارها ، عراقنا الجديد، في ظل ادارة الشيوعيين الوطنية، الناصعة، الحرة والنزيهة، إذ لن ترى قطعاً جرائم فيها، ولا كوارث، ولا مهازل مثل المهازل التي عشنا آلامها المرّة في عهود (الحكومات الايمانية)، بدءاً من حكومة (المؤمن) صدام حسين، الى حكومة (المؤمن) الذي سيأتي غداً بالمحاصصة القادمة. نعم، لن ترى في حكومة رفاق (سلام عادل) ظلماً، ولا تمييزاً، ولا طائفية، ولا عنصرية، ولا جوعاً ولا مجاعة، ولا أطفالا يأكلون من حاويات القمامة، ولا مستشفيات بدون أدوية وأجهزة طبية، وأطباء .. ولن ترى في حكومة الشيوعيين انتهاكاً، وخوفاً وقيوداً في معصم الحياة.. وقطعاً أنك لن ترى بعضاً من بعض البعض الذي نراه اليوم، وأمس، وما سنراه غداً في حكومات هذا الزمن العجيب في قبحه، وصلافته وغبائه! قاطعته وقلت له : ما دمت ترى العراق بهذه الصورة الزاهية حين يقوده الشيوعيون، ألا ترى ثمة أملاً لتحقيق هذا الحلم، ونيل هذه الأمنية في الزمن القريب القادم؟ فأجاب صديقي قائلاً : أنت تعلم أن الشيوعيين لا يحبذون الانقلابات مطلقا، فهم يعلمون جيدا ان زمن الانقلابات قد ولى بلا رجعة، كما أن ظروف الثورات في العراق قد تغيرت أسسها وشروطها وتضاءلت أسباب نجاحها، بسبب شراسة وإمكانيات، وسلاح قوى الثورة المضادة، وهذا يعني ان مجيئهم لن يكون إلا عن طريق الانتخابات، وكلنا يعرف أن هذا الطريق غير مؤهل الآن ديمقراطياً، وأن دروبه اليوم محفوفة بالرشى والمال والسلاح والتهديد والضغوط والترغيب، وغيرها، والشيوعيون كما تعرف بعيدون عن ممارسة هذه الطرق الملتوية، فهم يمضون في العلن وتحت ضوء الشمس، ولا يمتهنون حرفة الخداع والغش والضرب تحت الحزام.. ولهذا يمكن لي القول، إن الشيوعيين لن يصلوا إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات إلا بشرط واحد قلت: وما هذا الشرط؟ فقال: حين يعي العراقيون أن الشيوعيين - لا غيرهم -هم الدليل والمرشد لهم في هذا التيه العبثي، وأن يعلموا ايضاً أن الشيوعيين قمر العراق الوحيد في هذا الليل الطويل الدامس، وأن يدركوا أن مصيرهم، ومصير ابنائهم في خطر، إن لم يلحقوا بالمصيبة قبل أن تقع .. وأخيراً يجب على العراقيين أن يشعروا بالغيرة تجاه الإمارات والمشايخ الصحراوية التي أصبحت اليوم بفضل قادتها ابهى من جنة عدن، بينما باتت بلاد الجنائن المعلقة، وارض حضارة الرافدين -بفضل قادتها- صحراء قاحلة بل ومقابر كالحة! قلت: وماذا يعني هذا؟ قال: يعني، أن يذهب العراقيون لصناديق الانتخابات، ولا يصوتوا لغير الشيوعيين، إذ على أيديهم فقط، ستدفن (سرقات القرن)، وعار (الوجبات السريعة) التي يتناولها أطفالنا من (حاويات القمامة) وإلّا ، على العراق السلام!
*
اضافة التعليق