بغداد- العراق اليوم:
فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة مواعيد المدن تشبه مواعيد الحب، فحين يفوتك أوانها، ستفقد زيارتك جدواها حتماً .. والمكان الذي تفوتك زيارته في وقته قد يشيخ بعدئذ، وتتغير ملامحه وتضاريسه، ويفقد معناه أيضاً .. ليس المكان وحده فحسب، إنما أنت أيضاً، ستكبر وتهرم وتتغير، ويفقد مزاجك عافيته ورونقه وألقه، وقد تجد المكان الذي تمنيت أن تزوره في طفولتك، غيره تماماً، حين تزوره في كهولتك أو شيخوختك ! فمثلاً تمنيت في طفولتي، أن أزور البرازيل ولم تتح لي الفرصة وقتها، لكني زرتها بعد نصف قرن مرتين، وفي كلتا المرتين لم أجد تلك البرازيل التي حلمت بها وتمنيت زيارتها .. فالبرازيل تغيرت ، وأنا تغيرت مثلها ايضاً! وفي شبابي تمنيت أن ازور موسكو وعدن وكوبا.. وبعد سنوات، ذهبت الى عدن وموسكو وأيضاً لم أجدهما كما تخيلت، فقد وجدت (عدن) مدينة أخرى .. مدينة حزينة بائسة، لم يبق منها غير زرقة البحر، ومتاهة (القات) وشوارع غير مسجلة على قيد الحياة.. كما لم يبقَ من (بَطلي) الاسطوري عبد الفتاح اسماعيل سوى بقايا لصور ممزقة متناثرة على أعمدة النسيان.. أما موسكو، فقد ظننتها في البدء مدينة ثانية حين وطأت أقدامي ارضها، ولولا ضريح (لينين) لما صدقت أني في الساحة (الحمراء)! لذا أدعو كل من يستطيع السفر ، أن يغتنم الفرصة الان، ويحلق نحو عوالم مختلفة، ليتعرف على بحار جديدة، وسواحل خضر، ووجوه أخرى، وحضارات، وعادات وأغانٍ وموسيقى، ومتاحف، وجنائن لم يشم مثل عبيرها من قبل .. لقد لاحظت للأسف أن أغلب العراقيين والعرب، يفضلون السفر الى الدول التي توفر(المتعة الخاصة) على المتع الأخرى! وللحق، فأنا لست ضد (المتعة الخاصة)، ولكن يجب التفكير أيضاً بزيارة مناطق ومواقع ومدن أخرى توفر ما يضيف لثقافة الزائر، ومعارفه، وتعطي لقلبه وعقله وروحه دفقاً جديداً مستخلصاً من الجمال الآخر، جمال الوجدان المعطر بالسمو واللذة الروحية التي لن تجدها قطعاً في المتع الحسية .. إن الناس يذهبون الى تايلند مثلاً، ولا يفكرون مرة واحدة في الذهاب الى مدينة (هوشي منه) عاصمة فيتنام، المدينة التي تعبق بأريج الثورة والبهاء، وفيها يحكي كل شبر قصة صمود الشعب الفيتنامي، وتضحياته.. فمثلاً توجد في ضاحية (كوتشي) الى الان، أنفاق الثورة العظيمة التي كان يستخدمها ثوار فيتنام في حربهم التحررية من عام 1965 إلى عام 1976 .. فضلاً عن التعرف على ثقافة مختلفة عن ثقافات شعوبنا العربية .. وثمة عراقيون وخليجيون يذهبون الى (المغرب)، وهي لاشك بلاد جميلة، وقد سافرت اليها انا أيضاً، لكننا نبعد التفكير عن الذهاب لمدينة الجزائر، عاصمة المقاومة وثورة التحرير التي قدمت مليون شهيد على طريق الحرية، رغم أن الجزائر ليست بعيدة، فهي محاذية للحدود المغربية.. وللتذكير، فقد خرج من أرض الجزائر الحرة الأمير الثائر عبد القادر الجزائري والمناضلة جميلة بوحيرد، والقائد بومدين، والأديب الطاهر وطار، ومفدي زكريا، شاعر الثورة ومؤلف نشيد الجزائر الوطني .. سأكتفي بهذين المثالين، واظنهما يغنيان عن الخوض في مدن ودول (سياحية) أخرى، يفضلها العراقيون والعرب على مدن ودول هي أحق بالزيارة في كل النواحي، بما فيها الجمالية والحسية..ومثال على هذه الدول : بلاد السودان، تلك البلاد السمراء ذات الأرض الخضراء التي زارها الشاعر الكبير نزار قباني وقال عنها :(مفاجأة المفاجآت لي كانت الإنسان السوداني، الإنسان في السودان حادثة شعرية فريدة لا تتكرر، ظاهرة غير طبيعية، خارقة من الخوارق التي تحدث كل عشرة آلاف سنة مرة واحدة، الإنسان السوداني هو الوارث الشرعي الباقي لتراثنا الشعري، هو الولد الشاطر الذي لا يزال يحتفظ دون سائر الإخوة بمصباح الشعر في غرفة نومه، كل سوداني عرفته كان شاعراً أو راوية شعر، ففي السودان إما أن تكون شاعراً أو أن تكون عاطلاً عن العمل، فالشعر في السودان هو جواز السفر الذي يسمح لك بدخول المجتمع ويمنحك الجنسية السودانية، الإنسان السوداني هو الولد الأصفى والأنقى والأطهر الذي لم يبع ثياب أبيه ومكتبته ليشتري بثمنها زجاجة خمر، أو سيارة أمريكية، هو الإنسان العربي الوحيد الذي لم يتشوه من الداخل ولم يبع تاريخه بفخذ امرأة أبيض تسبح على شاطئ "كان" أو "سان تروبيز ..). والان، بعد ما قاله قباني، هل أنتم بحاجة الى حثكم على زيارة السودان، تلك اللوحة التشكيلية التي رسمتها الطبيعة بفرشاة مجنونة، وجمعت فيها كل تضادات الالوان والمشاعر والأفكار دون أي اصطدام أو تقاطع أو نشاز يحصل.. إذن دعوني اكلمكم عن السودان التي انجبت القائد الشيوعي الفذ عبد الخالق محجوب مؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي السوداني، الذي أعدمه الدكتاتور جعفر النميري بتحريض من الدوائر الاستعمارية ودعم الدول الرجعية العربية.. لقد شاهد العالم البطل عبد الخالق محجوب في المحكمة العسكرية الخاصة، حين ساله رئيسها بتهكم فظ : ( ماذا قدمت لشعبك)؟ فأجابه محجوب بهدوء: (الوعي بقدر ما استطعت) فأخرس الحاكم.. وحين أعدم بكاه السودانيون، ورثاه حتى خصومه في القوى الاسلامية وغيرها، كما نعاه احرار العالم في كل مكان، ولم يبقَ شاعر وطني تقدمي، إلا ورثى رحيله كالشاعر مظفر النواب الذي قال بعد يوم واحد فقط من اعدامه : ( على رأسك يا محجوب، رأينا سلة خبز تأكل منه الطير .. الخ) كما نعاه محمود درويش، وسميح القاسم، وسعدي يوسف، ولعل قصيدة الشاعر محمد مفتاح الفيتوري كانت الأبرز حيث قال فيها :( لاتحفروا لي قبراً سأرقد في كل شبر من الأرض .. أرقد كالماء في جسد النيل .. أرقد كالشمس فوق حقول بلادي .. مثلي أنا ليس يسكن قبراً لقد وقفوا ووقفت لماذا يظن الطغاة الصغار – وتشحب الوانهم – ان موت المناضل موت القضية .. أعلم سر احتكام الطغاة الى البندقية .. لا خائفاً أن صوتي مشنقة للطغاة جميعاً ولانادماً أن روحي مثقلة بالغضب كل طاغية ،صنم ،دمية من خشب .. وتبسمت . كل الطغاة دمى ربما حسب الصنم ، الدمية المستبدة ، وهو يعلق أوسمة الموت فوق صدور الرجال إنه بطل مايزال ! ..وخطوت على القيد لاتحفروا لي قبراً سأصعد مشنقتي، وسأغلق نافذة العصر خلفي.. واغسل بالدم رأسي، وأقطع، وأطبعها نجمة فوق واجهة العصر.. فوق حوائط تاريخه المائلة وسأبذر قمحي للطير والسابلة قتلوني..وانكرني قاتلي وهو يلتف بردان في كفني وأنا من ؟ سوى رجل واقف خارج الزمن كلما زيفوا بطلاً قلت : قلبي على وطني. ومن أرض السودان أيضاً، ظهر الروائي الطيب صالح، أحد أشهر الأدباء العرب، وصاحب رواية موسم الهجرة إلى الشمال، التي أكسبته شهرة عالمية على مدى أكثر من 40 عاماً، حتى باتت المقياس الذي توزن به قيمة أعمال أخرى، تناول فيها روائيون عرب الصدام بين ثقافة الشرق والغرب، فوصفتها الأكاديمية العربية في عام 2001 بأنها أهم رواية عربية ظهرت في القرن العشرين .. وقد طبعت منها 380 طبعة، كما ترجمت الى عدد لا يحصى من اللغات، ومن فرط شهرة الرواية ومؤلفها عالمياً، أمست قريته ( كرم كوْل) بإقليم مروي، على ضفاف النيل، محجاً لآلاف السياح الأجانب. بعد محجوب والطيب صالح، يبرز لنا النموذج الديمقراطي الباهر الذي قدمته السودان للعالم، والمتمثل بالرئيس سوار الذهب، ذلك القائد العربي العسكري الوحيد الذي تنازل طواعيةً وسلمياً عن السلطة لحكومة منتخبة عام 1985، حتى انه رفض طلب الحكومة الجديدة المنتخبة بتمديد رئاسته لشهر آخر لاسباب فنية، مصراً على تسليم الرئاسة في وقتها، ثم اعتزل بعدها العمل السياسي، فكسب بذلك احترام العالم كله ! إذن، هذه هي السودان، بقممها الابداعية العالية، وبطيبة شعبها، ونيلها، وأرضها المعطاء، فمن سيرافقني الى بلاد فيها الطيب صالح وعبد الخالق المحجوب وسوار الذهب؟.
*
اضافة التعليق