بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
أمس، وحين أبديت دهشتي لأحد الأصدقاء، حيال رقم (المليارين ونصف المليار) دولار امريكي المسروق، وجسامة الأمر وخطورته، ضحك صديقي وقال: وهل تعتقد أن هذا المبلغ الذي سرقته شركات (معروفة) من حسابات الهيئة العامة الضرائب، وبالاتفاق مع أعمدة وزارة المالية، اكبر من المبالغ التي سرقت منا في السنوات التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين؟
ويجيب بنفسه على سؤاله قائلاً: لا يا صديقي لا، إن أرقام المبالغ المسروقة قبل هذا المبلغ كبيرة جداً جداً، وقد يكون لها أول، وليس لها آخر، وهي أرقام خرافية، فلكية، يصعب معرفة مقدارها، والمصيبة أنها سرقت من قبل الحكام والسياسيين انفسهم، ومن اللصوص واتباعهم ذاتهم ، حتى لو اختلفت بعض الأسماء، وتغيرت بعض الوجوه؟
إن مبلغ مليارين ونصف المليار دولار هو بالتأكيد مبلغ كبير، وسرقته تشكل صدمة قوية وموجعة لك ولي ولجميع العراقيين، ولكن ماذا ستقول لو علمت بحجم النهب كله، أو كشف النقاب أمامك عن كل السرقات التي لا يعلم بها حتى العالمون في الغيب، وكيف ستكون دهشتك لو اطلعت على السرقات الفظيعة التي حصلت في وزارات النفط والكهرباء والتجارة والنقل والصحة، أو ما حصل من كوارث في مزاد العملة، والمنافذ، وعقارات الدولة والضرائب والتقاعد وبقية (الطراگيع)؟!
قاطعته وقلت له: وهل تعتقد أنت، أن رقم مليارين ونصف المليار دولار لوحده، ليس رقماً مخيفاً، ولا مرعباً؟، أتعلم مثلاً ماذا يعني هذا الرقم، لو وضع في خطط البنى التحتية، ومشاريع تطوير الزراعة، واستصلاح التربة، وبناء السدود، أو تطوير الصناعة الوطنية، والمضي بشعار (صنع في العراق)، هل تعرف ماذا يعني هذا الرقم لفقراء (الحواسم)، وساكني بيوت الصفيح، والكرفانات، وما سيحققه للأطفال الذابلين من الجوع في حي طارق وحي أكد والحسينية وأم جدر، وفي أحياء المعامل، ومنطقة الرشاد، ومدينة الثورة، والشعلة وحي 7 نيسان، وغيرهم من أطفالنا الذين يعتاش بعضهم على ما توفره لهم حاويات القمامة. أتعرف ماذا يعني أن يأكل طفل عراقي من حاويات الأزبال؟ وهل تعرف ماذا يعني هذا المال المسروق، في حسابات المشاريع الخاصة بإنشاء المدارس والمستشفيات، والملاعب الرياضية الكبيرة، خاصة وأن ملعب الشعب قد استحق الاعتزال، بل واقامة المباراة التكريمية في يوم اعتزاله، ناهيك من مآسي العوز والفقر في عموم محافظات الجنوب والوسط ؟!
إنه مبلغ كبير جداً، يكفي لأن يوفر لقمة شريفة، وراتباً جيداً، ودعماً صحياً، لعوائل وأبناء كل الشهداء الميامين.
ولكن، مالعمل، كما يقول ( عمنا ) فلاديمير لينين؟
وقبل أن أفكر بالعمل.. تلقيت اتصالاً من احد المعلنين عن منتوج معين لإحدى الشركات - وهو أمر طبيعي في امريكا-، وقد كان المتصل من الأخوة المصريين، وما أن عرفني عربياً، حتى سألني :
- الباشا من أي بلد؟
فقلت له مازحاً: الباشا من العراق!
لكني بصراحة ندمت حالاً على ذلك، فقد خشيت أن (يشغل) ذات الاسطوانة المشروخة التي كرهنا سماعها من العرب، والتي تتكرر أمامنا أينما نمضي، وهي ؛ (على راسي العراق، بلد البطل صدام حسين)!
وسأضطر -مثل كل مرة - الى قطع المكالمة، وأقول لًه بغضب: (أنعل أبوك لابو صدام)!
لكن المتصل المصري لم يقل لي ما كنت أتوقعه منه، إنما قال: العراق بلد عظيم، فيه حضارة، وتاريخ، وشعب شجاع، وله في أعناق المصريين دين كبير)!
فقلت له مجاملاً: وكذلك الشعب المصري.. فهو شعب عظيم، وأنا أحبه جداً..
وبعد أن عرض الرجل منتجه، فاجأني بقوله، قبل أن يودعني :
- ياباشا، أيه حكاية سرقة المليارين ونصف دولار، والله، لو كان الكلام ده قد حصل في مصر، لأحرق المصريون القاهرة كلها !
أجبته بجملة واحدة، وأنا أشعر بالحنق والقهر قائلاً: أما نحن فلن نحرق (بغدادنا)، إنما سنحرق الحكام اللصوص، والفاسدين ، وسنهدم على رؤوسهم فيلاتهم وقصورهم، فنحن لسنا (نيرون) لنحرق (روما) العراق!
بعد هذه المكالمة المؤلمة، جلست وفكرت طويلاً وقلت مع نفسي: ماذا كان رد فعل الشعب العراقي تجاه هذه الجريمة اللا أخلاقية، وتجاه هؤلاء اللصوص، خصوصاً بعد ان بات الفاعلون معروفين له بالصوت والصورة، وماذا اتخذنا - كجماهير شعبية منهوبة- من قرارات رادعة تتناسب وسفالة هؤلاء المجرمين، أ نترك الحبل على الغارب، ونصمت مثل كل مرة ننهب فيها.. أم سنرمي كرتنا في ملعب القضاء ونتفرج.. رغم أننا نحترم القضاء العراقي ؟!
ولكن الاعتماد على القضاء برأيي لن يحل المشكلة، بسبب سلسلة الاجراءات الروتينية التي تساعد اللصوص على الهرب والنفاذ، سواء اكانوا من المسؤولين في الدولة او أصحاب الشركات الخمس !
إذاً، مالعمل؟
العمل والحل الوحيد يتمثل في ثورة شعبية، اكرر ثورة شعبية، قوامها العراق كله، من زاخو الى الفاو، شرط أن يشارك فيها العرب والكرد والتركمان والكلد آشور- بالمناسبة إن أخوتنا الكرد في الاقليم أكثر حاجة لهذه الثورة من غيرهم، فهم مستلبون حد النخاع.
نعم فالحل لا يأتي الا بثورة شعبية عارمة تسهم فيها كل الشرائح الاجتماعية والطبقية المسحوقة، ثورة شعبية حقيقية، وليست انتفاضة تقوم على مطالب معيشية أو ظرفية محددة، ثم تنتهي، مثل انتفاضات البنزين، او الخبز ! كما لا نريدها انقلاباً تقفز من خلاله عصابة ما للسلطة، كما حصل في انقلاب البعث في السابع عشر من تموز 1968، حين قفز البكر وعماش وصدام وبقية افراد الشلة، من سيارة ( الزيل ) التي أقلتهم الى قصر الرئاسة !
نريدها ثورة تزيل هذا النظام المتهرئ من أساسه، وتشيد على أنقاضه نظاماً حراً نزيهاً ديمقراطياً عادلاً، تزدهر فيه دولة الحرية والسلام.
لقد مللنا الوعود الوردية، وسئمنا أنصاف الحلول، لذلك لن نرضى هذه المرة بغير الثورة والنصر الكامل، سواء في العنوان أو النتائج
وأنا واثق من النصر، ومن كنس هذه الزمر الفاسدة، فإذا ما غضب الشعب، وثار بكل عناوينه الشعبية والوطنية، وليس الحزبية او الطائفية او الفئوية المقيتة، فلن يقف بوجهه سد او متراس.
وهنا قد يتهمني البعض بجموح الخيال، او ربما بالطوبائية، لكن الحقيقة التي لا بد منها، والتي لا يدركها هذا البعض، أن الشعب المؤمن بعدالة قضيته، يصنع المستحيل، ويحقق المعجزات.
وصدقاً، أنا واثق بعظمة شعبنا وبقدراته الكبيرة، وإذا وجدنا لاسمح الله، أن هذا الشعب قد (تقاعس) - لسبب ما - عن القيام بالثورة، فثقوا أن أهلنا في (مدينة الثورة) قادرون لوحدهم على القيام بها، وتحقيق الهدف، أليس الكادحون هم جيش الثورة، ووقودها، ومحركها ؟
إذاً، فـ (أهل الثورة) سينهضون بالثورة، وسينجزون مهمة القضاء على أركان هذا النظام الفاسد..وإلّا فمن غيرهم لها؟
*
اضافة التعليق