بغداد- العراق اليوم:
غادة السمان
لا أتحدث اليوم عن تلك «القبلة» التي رسمها النمساوي المبدع غوستاف كليمت (1862 ـ 1918) والتي جسدت شهوات الأمواج لغزو المغاور المرجانية ولا عن «القبلة» التي نحتها المبدع الآخر «أوغست رودان» (1862 ـ 1917) والتي ينبض بها الحجر حياة ونكاد نسمع ضربات قلبين عاشقين عاريين متعانقين داخل الرخام. اتحدث اليوم عن قبلات (غير إبداعية).. قبلات تلفزيونية.. قبلات على الخدين يتبادلها الكثيرون على شاشة التلفزيون الفرنسي وتشبه لديهم المصافحة التقليدية لدينا أي انها لا تحمل أي مدلول جنسي او عاطفي (لكنها قد تنقل الامراض!). واتحدث اليوم مثلاً عن قبلات مقدم البرامج الفرنسي الشهير «سيريل هانونا» في برنامجه شبه اليومي ويدعى «لا تلمس عملي» أي «لا تحاول سرقة برنامجي مني»!! سيريل يقبل معظم ضيوف برنامجه على النحو الغربي التقليدي: فما الذي لفتني هذه المرة؟
قبلات تلفزيونية للمسلمة المحجبة!
لفتني ان المتسابقة مسلمة محجبة.. وهي المرة الأولى التي أرى فيها مواطنة فرنسية بملامح عربية تدخل بحجابها إلى برنامج تلفزيوني فرنسي كواحدة من المتسابقين فيه والمتسابقات. من طرفي رحب مرصدي باختراق المرأة المسلمة الفرنسية لحقل كان وقفاً على فرنسيات من الأكثرية غير المسلمة، وعلى مسلمات غير محجبات بل (متكيفات) بمعاني الكلمة كلها مع «التقاليد الحضارية الفرنسية» السائدة التي هي من حق الفرنسيين في وطنهم كما نمنع نحن الإفطار العلني في رمضان في بعض اقطارنا العربية. وجدتني أمام نموذج شبه جديد في البرنامج التلفزيوني، شابة محجبة تعاقر الحياة العامة في برنامج متلفز. ولأن من العادات في فرنسا تبادل القبلات على الخدين في التلفزيون والسينما والحياة اليومية نساءً ورجالاً (وهو مجرد أسلوب من أساليب الترحاب الاجتماعي) قبّلها سيريل هانونا على الخدين كما يفعل مع الجميع وقبّلها ايضاً في وسط البرنامج كما لا يفعل عادة قائلاً لها ان ابتسامتها ساحرة وهذا صحيح ثم قبّلها حين ودعها. تأملت وجه الشابة المسلمة الفرنسية. بدا عليها بعض الحرج ـ كما خيّل اليّ ـ ولكنها كانت تعرف ان الأمر يحدث دائماً على هذا النحو في تلك البرامج المتلفزة، وبدلاً من الانطواء والعزلة اندمجت، والإسلام ليس الاستسلام لـ(غيتو) الانطوائية. ومن طرفي انحزت لها.. وكنت طوال الوقت أنصت إلى اجوبتها في المسابقة وأتمنى ان تكون على صواب كما يفعل المؤيد لفريق كرة قدم وكنت من فريقها لأنني أحب الشجاعة، والريادة في الحقول كلها ولا أرى مبرراً لتكون «تاء التأنيث» لدى المسلمة مثل سور حولها وأميل إلى التفاعل المستنير مع من حولها مما يخفف من وطأة «الاسلاموفوبيا» إلى حد بعيد. وقد نجحت المتسابقة بذكائها وسعة معرفتها وتفوقت، وسررت بإطلالة مسلمة تفيض ذكاءً وجمالاً وشجاعةً.
لا أحب نظرية «سوء النية»
جارتي الشامية/البيروتية مثلي قالت معترضة: سيريل هانونا لم يقبلها بود، بل بالغ في ذلك لإحراجها واخراجها ولو رفضت قبلاته وانفعلت لحصل برنامجه على العناوين في الصفحات الأولى من الصحف. ولم يكن مضطراً لتقبيلها وهي المحجبة.. وعلى هذا النحو المبالغ به. قلت لها إنني لا أميل إلى نظرية «سوء النية». وما شاهدته بدا لي عادياً في إطاره أي في التلفزيون الفرنسي. وتفهمت قول زوجها: لن أرضى بظهور ابنتي في برنامج يعرضها لقبلات سيريل أو سواه. فهمت ما قاله الزوج لأنني عشت ما يشبه مشاعره يوم تزوجت وللتهنئة جاء صديق لبناني لزوجي هو المحامي الكبير أ.س، الذي كان وزوجته الجميلة مقيماً في ـ حي «بلغرافيا» اللندني الراقي وقبلني على خديّ للتهنئة وفوجئت كشامية عتيقة بذلك. وسألت زوجي بعد ذهابه بدهشة: هل شاهدت كيف قبلني؟ ضحك زوجي الذي تعارف جيداً مع العادات الغربية (كان عمه سفيراً في باريس طوال عقد ونصف ويستضيفه) وقال لي: هذه القبلة تشبه المصافحة عندنا. إنها عادة غربية لا تحمل أي مضمون غير المودة الخالصة والصداقة.
وليد توفيق وملكة جمال الكون جورجينا
قبل أعوام قرأت تصريحاً (استنكره البعض) للمطرب (ابن طرابلس الشام) وليد توفيق يقول فيه إنه يرفض أن يقبل أحد زوجته جورجينا رزق (ملكة جمال الكون). تفهمت رفض وليد توفيق لتقبيل أحد لزوجته هذه القبلات (الاجتماعية الغربية) وبالذات لأنني كنت قد فوجئت بقبلات صديق زوجي. وبعدها تكسرت القبلات على القبلات خلال حياتي في أوروبا، فهي لا تعني هنا غير التحية.
الحرية للمرأة!
ما مناسبة كل ما تقدم؟ انه اليوم العالمي للمرأة الذي سيحل بعد أربعة أيام وستقال فيه أكاذيب ذكورية لطيفة كثيرة في مديح المرأة ودورها (ليوم واحد) وبعدها عندنا كعرب سيعود كل شيء كما كان.. وحتى الأستاذ الجامعي الذاهب للمحاضرة حول انحيازه لحقوق المرأة سيمنع زوجته من مغادرة البيت لحضور محاضرته! كعادتي: أطالب بالحرية للمرأة مع نفسها اولاً ومع مجتمعها الذي يكلف الرجل نفسه أحياناً بلعب دور «القوّام» على عقلها وإرادتها وخياراتها. أكرر: مجتمعاتنا تنسى أن الفضيلة هي أولاً حرية الاختيار و»المقموعة» التي لا تختار شيئاً ليست فاضلة ولا فاسقة. إنها لا أحد. من طرفي أعتقد أن الوقت قد حان لرفع الوصاية عن عقل المرأة وبالذات في عالمنا العربي.. وتركها تتصرف كما تشاء في الوطن وفي الغرب.. لا فقط في اليوم العالمي لها..