بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي افتتاحية جريدة الحقيقة تلقينا خلال اليومين الماضيين، عدداً غير قليل من كلمات الشكر والتقدير عن الملف وما نشر بعد الملف الخاص بالذكرى الحادية والأربعين لرحيل القامة الوطنية التقدمية والإبداعية الباسقة شمران الياسري - أبو گاطع - في جريدتنا الحقيقة. وقد جاءت هذه الكلمات المعطرة بالمحبة والثناء من قبل منظمات يسارية وفاعليات وطنية، وشخصيات ثقافية عديدة، وفي طليعتها أسرة الراحل الكبير نفسه. وبقدر ما أفرحني شخصياً هذا التكريم والتقدير الذي حظيت به جريدة الحقيقة باعتباري واحداً من أسرتها، فإنه قد فتح لي في الوقت ذاته، نافذة لأطل منها على الثراء الزاهر الجميل، وأراجع ذلك العطاء الباهر ، والتاريخ الفاخر الذي تركه لنا شمران الياسري، سواء أكان في ميدان الإبداع والكتابة، أو في ميادين الشجاعة والصراحة والجرأة، والنزاهة والنقاء والشرف، وفي تشخيصه الصائب للموقف، وقراءته الدقيقة والصحيحة لما يقع خلف اللحظة وأمامها، وأقصد بذلك قراءة المستقبل. وقد حفزتني كلمات الشكر التي تلقتها الجريدة في أن أذهب مع (أبو گاطع) بنزهة وجدانية فيها الكثير من الحب والاستذكار النقي الندي، متمشياً مع هذا الثائر الباسل الذي يصر على اصطحاب ظله (خلف الدواح) حتى ونحن نسير في بستان الذكريات، متنقلين بين أشجار النخيل المثمرة والجداول العذبة الصافية، فأتذكر في الحال أول لقاء لي بذلك الرجل الفذ في آذار عام 1973، حين جئت لمقر مجلة الثقافة الجديدة في بغداد، بكل خجلي وخوفي وترددي، وأنا اسأل عن صديقي القاص فاضل الربيعي، الذي كان يعمل في المجلة آنذاك، لكني فوجئت بعدم وجود الربيعي ذلك اليوم، فاستقبلني شخص ذو وجه باسم، ودود، عرفت فيما بعد أنه شمران الياسري، المعروف باسم (أبو گاطع) وبعد أن ذهب -بفضله- الخجل والخوف مني -وقد كان عمري وقتها- 21 عاماً - أخرجت قصيدة (حارة ) من جيبي، كنت قد كتبتها قبل ساعات، وهي أول قصيدة شيوعية أظهرها (رسمياً)، وقد كان عنوانها : (رسالة الى الخالد فهد).. وبعد أن قرأت القصيدة أمامه، أبدى الرجل إعجابه الشديد بالقصيدة، ثم همس بأذني قائلاً: حين تذهب مرة أخرى الى جريدة أو مجلة ما، وأنت تحمل معك قصيدة أو مقالة، لا تقرأها لمسؤول المطبوع، كما لا تعطها له ليقرأها أمامك، فيشطب، ويحذف، وأنت تنتظره مثل طالب في مدرسة إبتدائية، إنما ضعها أمامه، وامض، فإن كانت صالحة فستفوز بنشرها، وإن لم تكن صالحة فستفوز بالحفاظ على ماء وجهك.. لقد كان هذا، أول درس تعلمته في حياتي الأدبية والصحافية، وبقيت وفياً لهذا الدرس حتى يومنا هذا، والتزاماً مني بقيم هذا التوجيه، فإني أرفض اليوم أن أقرأ مادة صحفية أو شعرية أمام كاتبها طيلة عملي رئيساً للتحرير، (حفاظاً على ماء وجه الكاتب)! ومنذ تلك اللحظة صار أبو گاطع صديقي، فتكررت لقاءاتي به عشرات المرات، في جريدة طريق الشعب، وفي المناسبات والأعياد والاحتفالات الوطنية والشيوعية، وفي اللقاءات العديدة التي كانت تتم في بيته الكريم في بغداد.. ولعل أروع الصدف أن يكون نجله الراحل ( فائز ) صديقي ورفيقي قبل أن أتعرف الى أبيه شخصياً، لكن من سوء الصدف أيضاً، أن يفارقنا أبو ياسر نحو مثواه الأخير قبل سنة، في ليلة فرحنا بعيد ميلاد الحزب الشيوعي العراقي، فأطفأ برحيله الفاجع قناديل السعادة في تلك الليلة البهيجة .. وللحق، فإن فائز لم يكن وحده صديقي من بين أفراد أسرة شمران الياسري الكريمة، إنما كان أيضاً ولده الأصغر إحسان، الذي كان وقتها فتياً يأتي لنا بصواني الطعام، واستكانات الشاي، واليوم ورغم أن أبا زينب يشغل بجدارة واستحقاق منصب نائب محافظ البنك المركزي، إلا أنه يصر على مخاطبتي: (عمي أبو حسون)، اعتزازاً بصحبتي لوالده الكبير. وكذلك السيد حميد، والنائب السابق رشيد - ولدا أخ شمران - فهما صديقان عزيزان لي، بل ومن أقرب أصدقائي واحبهم الى قلبي. ويشرفني القول إن الراحل أبا گاطع كان يحبني جداً، وقد خصني بالكثير من فيض كرمه ودعمه واسناده، فقد كان ينظر لي نظرة الأب والعم والرفيق والصديق.. حتى إني كنت أحار في مخاطبته، أأناديه رفيقي، وهو أمر طبيعي، فقد كنت وإياه رفيقين في الحزب، أم أناديه، صديقي، وهو فعلاً صديقي الذي أتشرف بنيل صداقته، أم أسميه: أستاذ، وهو الذي كان يكره أن يناديه أحد بهذه الكلمة! ولا أخفي عليكم، فقد كنت أتمنى أن أقول له (عمي) رغم أن الفرق في العمر بيننا كان ربع قرن، لكني كنت واثقاً أنه سيرفض هذه المخاطبة، فكلمة عمي هي أكبر من عمره، وأصغر من عمري.. مرة شكرته، لأنه استعار مقطعاً من إحدى قصائدي ووضعه على لسان أحد شخوص رباعيته العظيمة، وأظن في جزء غنم الشيوخ، حين ينهض شاب من القاعة ويقرأ: " نبي واحدكم عرفته نايم بفيه الحمام…. الخ المقطع "! فقال لي بتواضعه الصادق: أنا الذي اشكرك! إن لـ( أبو گاطع ) أفضالاً كبيرة وكثيرة في عنقي، أذكر مرة حين تقدمت عن طريق التنظيم متطوعاً للعمل في جريدة طريق الشعب، ولما وقفت أمام رئيس التحرير الراحل عبد الرزاق الصافي، سألني عن القسم الذي أود العمل فيه، فاخبرته برغبتي العمل في الصفحة الأخيرة، لكن أبا جبران (شمران الياسري نفسه) قال للصافي: ( لا رفيق أبو مخلص، أرجو أن تخليه يعمل ويه جماعته في قسم التصحيح)! ويقصد مع جماعتي الشعراء الشعبيين، حيث كان الشاعر الشهيد ذياب گزار( أبو سرحان) مسؤولاً لقسم التصحيح، ومعه في القسم ذاته الشاعران الراحلان عريان السيد خلف وجمعة الحلفي! فوافق رئيس التحرير على اقتراح الياسري، وذهبت الى قسم التصحيح في المطبعة، وحين لاحظ أبو گاطع انزعاجي وعدم ارتياحي من العمل في التصحيح، مسكني بلطف من يدي قائلاً: إسمع فالح، ستتعلم في قسم التصحيح جميع فنون العمل الصحفي، وستمر عليك جميع الصفحات، وسترى بعينك الأخطاء التي يقع فيها المحررون والكتاب بما فيهم الكبار، وستكون بعد حين خبيراً، وقادراً على توجيه العمل في كل صفحات الجريدة، إذ ربما ستكون رئيساً لتحرير جريدة في يوم ما، إذ ستكون وقتها ملماً وعارفاً بكل اقفال ومفاتيح واسرار صفحات واقسام الجريدة، وليس الصفحة الأخيرة وحدها، وقتها سوف تترحم على (والديْ) أو ربما ستترحم على روحي أنا أيضاً ! لك الرحمة يا أبا جبران، فقد صرت فعلاً رئيساً للتحرير، وقد استفدت من عملي في قسم التصحيح، وها أنا أترحم على روحك النقية الطاهرة كل يوم، كما يشرفني أن أقول لك بأني كتبت لك أغنية حب، أداها عزيزك الفنان فؤاد سالم، فهي جزء من وفائي لمواقفك الكريمة معي، كما يشرفني أن أكون أحد المساهمين في إنشاء موقع يحمل اسمك الكريم قبل عدة سنوات، فضلاً عن اني أخصص كل عام ملفاً استذكارياً في جريدة الحقيقة نكشف فيه بعضاً من جمال تاريخك، ونشير الى بستان ابداعك الزاهر، وثمارك الخضراء التي لم تزل ناضجة حتى هذه اللحظة، وسأظل وفياً لقيمك وطهرك وشجاعتك وشيوعيتك التي بقيت محافظاً على نصاعتها.. ختاماً وارجو أن تعذرني هذه المرة لو قلت لك: شكراً (عمي) أبو گاطع !
*
اضافة التعليق