بغداد- العراق اليوم: يعاني العراق من جفاف يشتد مع مرور الأيام، ما دفع بالحكومات العراقية للتفكير في إنشاء عدة سدود، أهمها سد مكحول المقرر إنشاؤه في محافظة صلاح الدين. إلا أن السد ورغم إيجابياته الكثيرة قد يتسبب في كوارث بيئية وإنسانية. منذ أعوام تحاول الحكومات العراقية المتعاقبة تنفيذ مشروع سد ضخم أسفل رافد "نهر الزاب الصغير" شمال محافظة صلاح الدين وسط العراق على سلسلة جبال مكحول، وهو السد الذي أطلق عليه اسم المنطقة.. "سد مكحول". لكن السد الذي تتحدث الحكومة العراقية عن فوائده الاقتصادية المتعددة، يثير جدلاً كبيراً على مستويات عدة، سواء بين علماء الآثار الذي يخشون من تدمير مواقع أثرية هامة جدا، أو بين خبراء السدود الذين يخشون من انهيار السد، وحتى بين سكان المنطقة الذين توقفت حياتهم بشكل تام ولا يعلمون إلى أن سيذهبون. أزمة جفاف خطيرة يواجه العراق أزمة جفاف تتفاقم باستمرار، أحد أسبابها الأساسية السدود الكثيرة التي أقامتها تركيا على نهري دجلة والفرات في غضون سنوات قليلة. أيضاً أكد مسؤولون عراقيون أن إيران قطعت بشكل كامل المياه عن نهر ديالى ما تسبب في تراجع مستوى مياه بحيرة "سد حمرين" في محافظة ديالى شمال شرقي بغداد. إعلان لكن هناك مشكلة أكبر وهي التغير المناخي، الذي يعتبر السبب الرئيسي للجفاف في العراق حيث ترتفع درجات الحرارة إلى أكثر من 50 درجة مئوية أحياناً في الصيف مع تراجع هطول الأمطار، ليصبح العراق البلد "الخامس في العالم" الأكثر تأثراً بالتغير المناخي، بحسب ما أعلنت وزارة البيئة العراقية مؤخراً. ويشكل ملف المياه تحدياً كبيراً في العراق الغني بالموارد النفطية، لكن ثلث سكانه، البالغ عددهم 40 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر، ويواجه موجات جفاف تزداد سوءاً عاماً بعد عام. مشروع بعوائد اقتصادية ضخمة؟ ومع تعقد الأوضاع وتزايد المخاوف من عمليات نزوح داخلية وانحسار المساحات المزروعة بسبب الجفاف، قررت السلطات العراقية عام 2003 البدء في مشروع إنشاء "سد مكحول"، لكن العمل توقف لفترة مع سقوط نظام صدام حسين، خاصة مع تعرض المكان للسلب ونهب المعدات، ليعود بعدها العمل بدرجات متفاوتة خلال السنوات الماضية، إلى أن بدأت الإنشاءات تأخذ طابع الجدية عام 2021. تؤكد الحكومة العراقية أن السد المقرر أن يكون "أكبر السدود في العراق"، ستكون لديه طاقة تخزينية تقدر بنحو 3,3 مليار متر مكعب من المياه، كما أنه سيوفر قرابة 20 ألف فرصة عمل، ويُتوقع أن يتم إنتاج الكهرباء من محطات التوليد الملحقة بالسد تقدر بنحو 250 ميغاواط. وعن سبب اختيار الموقع تقول الباحثة الدكتورة سارة زعيمي التي شاركت في إعداد تقرير مفصل صدر عن منظمة "ليوان" العراقية غير الحكومية بشأن تبعات بناء السد، إن "المكان يعتبر حوضاً طبيعياً يلتقي فيه نهرا الزاب ودجلة، ويتكون في المنطقة ما يشبه السد الطبيعي، ولذلك رشحته الدراسات التي تمت عام 2003 لإقامة السد"، بحسب ما أفادت خلال حوار لها مع DW عربية. ووفقاً لبيانات الحكومة، فإن السد سينشئ بحيرة كبيرة من المياه شمال محافظة صلاح الدين، ما سيُمكن الدولة من استصلاح مساحات واسعة من الأراضي في محافظتي كركوك وصلاح الدين إلى جانب تنمية الثروة السمكية. أيضاً تشير بيانات الحكومة العراقية إلى أن السد سيقلل من مخاطر الفيضان في مناطق شمال "بحيرة الثرثار" وتخفيف الضغط على سد الموصل. وتقول الحكومة العراقية إن السد سيوقف الخطر الذي قد تتعرض له سامراء والعاصمة بغداد إذا ما وقع أي فيضان أو حال انهيار سد الموصل الذي تجري عليه الآن وبشكل دوري أعمال صيانة. دمار لا أمل في إصلاحه؟ لكن على الجانب الآخر، يؤكد خبراء من عدة قطاعات مختلفة، إلى جانب دراسات متعددة، أن للسد عواقب وخيمة للغاية. فالضرر الذي قد ينشأ عن إقامة السد لن يتوقف عند تدمير تراث حضاري وإنساني عريق جدا، وإنما أيضاً سينجم عنه تهجير عشرات الآلاف من الأسر واختفاء نحو 40 قرية بشكل كامل، إضافة إلى مخاوف أخرى متعلقة من احتمال انهيار السد نفسه بسبب تركيبة التربة التي سيقام عليها. وأشارت دراسات علمية نشرت في عدة مجلات متخصصة داخل وخارج العراق إلى وجود مخاوف تتعلق بسلامة السد، إذ أكد خبراء ومهندسون أن التربة في المنطقة هي "تربة جبسية" تهدد مستقبل السد، إضافة إلى ارتفاع احتمالات حدوث انزلاقات في الصخور المحيطة بالسد، فيما أكد عمار الجبر، محافظ صلاح الدين أن سد مكحول مهدد بالانهيار بسبب شدة السيول والفيضانات. يخشى علماء وخبراء من انهيار السد بسبب طبيعة التربة إضافة لاحتمالات الانهيارات الصخرية من الجبال بمنطقة السد ومؤخراً، حذرت دراسة مستفيضة للمشروع أجرتها منظمة ليوان غير الحكومية العراقية والمعنية بالحفاظ على الإرث التاريخي للبلاد بالتعاون مع منظمة الهجرة الدولية (IOM) التابعة للأمم المتحدة والوكالة الأسترالية للتنمية الدولية (Australian Aid) من التأثيرات السلبية المتعددة للسد. وتقول مؤسسة ليوان إن علماء وباحثين عراقيين عملوا على دراسة جدوى تفصيلية للمشروع استغرقت 10 أشهر للوقوف على الخسائر الناجمة عن بناء السد، كما تم عمل استطلاع رأي للأهالي وسكان المنطقة المزمع إقامة المشروع فيها، بالإضافة إلى عمل مسح أثري شامل لأهم المواقع الأثرية في المنطقة. وبحسب دراسات متعددة فإن السد سيغمر أيضاً 395 منشأة خدمية من مدارس وعيادات ومحطات مياه وكهرباء ومقابر وملاعب رياضية ومراكز ثقافية، كما ستتعرض قرابة 67 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الزراعية والعقارات والبساتين للزوال. وفي هذا السياق تشير الدكتورة سارة زعيمي إلى أن هناك مقالات علمية موثقة ومنشورة في مجلات عالمية أكدت أن تركيب التربة التي سيقام عليها السد لا تصلح للبناء، ولذلك تقوم الشركة المسؤولة عن تنفيذ المشروع حالياً بعمليات حقن للتربة، مضيفة أنه "أمر مكلف للغاية وغير مجدٍ، بل إن هناك تخوفات كثيرة من أنه حتى بعد عمليات الحقن قد ينهار السد لتضيع استثمارات بالملايين أُنفقت في بلدٍ لديه مشكلة كبيرة في الميزانية". وتضيف زعيمي أن وزارة الرى والموارد المائية قامت في عام 2011 بدراسة جدوى عن طريق شركة إيطالية هندسية مختصة في المشروعات الكبرىMega Projects خلُصت إلى أن السد لا جدوى منه، وهو ما أشار إليه أيضاً الدكتور حسن الجنابي وزير الموارد المائية الأسبق، وتساءلت زعيمي عن سبب إصرار الحكومة على إتمام بناء السد في هذا التوقيت رغم اعتراضات الخبراء وتعارضه مع دراسات الجدوى المختلفة! تهجير عشرات آلاف الأسر توكد الحكومة العراقية أن سكان المنطقة المحيطة بالسد سيتم تعويضهم عن منازلهم والأراضي الزراعية التي كانوا يعملون على فلاحتها، كما سيتم نقلهم إلى أماكن أخرى تتمتع ببنية تحتية مجهزة ومعدة لاستقبالهم. لكن الدكتور ضياء كريم المدير التنفيذي لمنظمة ليوان أكد أن سكان المنطقة لديهم شكوك عميقة بشأن وعود الحكومة العراقية. ويشير كريم إلى أن "السكان خلال إعداد الدراسة اشتكوا من عدم وجود أي تواصلٍ رسميٍ معهم ولا يعرف الناس، ممن يسكنون في 40 قرية سيتم تهجيرها، إلى أين سيذهبون ولم يتكلم معهم احد عن المكان الجديد الذي سيذهبون إليه وما هي المرافق أو البنية التحتية المتوافرة في هذا المكان رغم أن هذا الأمر هو الشغل الشاغل اليومي لسكان هذه القرى. ويضيف كريم: "يؤكد سكان المنطقة أنهم لا يستطيعون البناء أو البيع أو الشراء لأن المستقبل غامض وغير مستقر .. هناك من يقول إنه يخشى أن يستثمر في الأرض ببناء مصنع على سبيل المثال ليجد أنه تقرر إزالة المصنع وتهجير المنطقة بالكامل وبالتالي ستكون خسارة فادحة". كما أن القلق يمتد إلى تشتت شمل العائلات والعشائر في المنطقة. وفي هذا السياق يقول كريم: "العائلة الواحدة في المنطقة مقسمة إلى عشائر في مناطق مختلفة فكيف سيكون وضع تلك العائلات بعد تهجيرها؟ وهل ستسكن كل العشيرة في مكان واحد مثلاً؟ كيف سيتم النظر إلى الروابط العائلية والأسرية؟". وحسب تقرير منظمة ليوان للثقافة والتنمية، فإن السد سيتسبب في تهجير 39 قرية مأهولة وقرية واحدة مهجورة، على مساحة تزيد عن 15 ألف كيلومتر مربع. ويبلغ عدد سكان هذه القرى أكثر من 118 ألف نسمة. يضيف الدكتور ضياء كريم: "كلما تحدثنا مع المسؤولين يقولون لنا إنهم وضعوا في اعتبارهم كافة الجوانب السلبية المأخوذة على المشروع وخصوصاً تلك المتعلقة بالسكان، مع التأكيد بأنه لن يؤثر على العائلات التي سيتم تهجيرها من موقع السد. لكن من ناحية الناس أنفسهم فهذه أمور غير ملموسة حتى اللحظة". ماجد ابراهيم سلمان، معاون مدير عام هيئة السدود والخزانات في وزارة الموارد المائية، أكد في تصريح لوكالة الأنباء العراقية أن "الهدف من إنشاء السدود هو تأمين الأمن المائي والغذائي للبلاد بشكل عام، وعند إنشاء أي سد تجري معالجة آثاره السلبية، ومثال ذلك سد حديثة، والذي أشارت دراسات إلى أن بناءه سيتسبب في غرق منطقة عانة القديمة بكاملها، لذلك قامت الدولة ببناء مجمع سكني سمي عانة الجديدة وانتقل السكان إليه". وتابع سلمان أن "الدولة ستعوض المواطنين الذين سوف تغمر المياه أراضيهم والمناطق الجنوبية ووسط العراق وكل الساكنين على نهر دجلة" محذراً من "غرق مناطق كاملة إذا لم تكن هناك سيطرة على الفيضانات". كارثة أثرية أما عن المخاطر التي يمثلها بناء السد على الآثار العراقية، فيحذر علماء آثار عراقيون وخبراء بمنظمات دولية من أن إنشاء السد وبحيرة التخزين سينتج عنهما غرق مساحات واسعة من المناطق الغنية بالآثار، بعضها مسجل كتراث إنساني لدى اليونسكو مثل آثار مدينة آشور التاريخية التي صُنفت على أنها "إرث تاريخي معرض للخطر". يهدد المشروع بزوال عشرات المواقع الأثرية التاريخية الهامة في المنطقة ويؤكد الدكتور خليل الجبوري، رئيس قسم الآثار في جامعة تكريت وعضو منظمة ليوان أن المشروع سيضر أكثر من 200 موقع أثري، منها 67 موقعاً مسجلاً في هيئة الآثار العراقية بشكل رسمي والبقية بدأت فيها أعمال التنقيب بنسب مختلفة. وأكد الجبوري لوكالة الأنباء العراقية أن أحد المواقع المسجلة بالفعل بمنظمة اليونسكو هو مدينة آشور والتي "ستتأثر بشكل مباشر بسد مكحول". يذكر أن الكثير من آثار المنطقة تعرضت لتخريب متعمد على أيدي مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كما تعرضت لعمليات نهب متعددة خاصة وأن الكثير من الآثار لايزال مطموراً تحت الرمال، فيما يشكو الباحثون العراقيون من ارتفاع تكلفة عمليات التنقيب التي لا تستطيع الحكومة العراقية تغطيتها بالكامل. بدورها، قامت الحملة الدولية لإنقاذ نهر دجلة والأهوار العراقية، بإرسال رسالة إلى اليونسكو، للتنديد بالتهديدات التي تتعرض لها مواقع التراث العالمي في آشور والأهوار، وطالبت بنشر دراسة الجدوى وتقييم الأثر البيئي لتأثيرات بناء السد على موقع مدينة آشور وغيرها من المواقع التاريخية وكذلك تأثير السد على النظام الإيكولوجي لمنطقة الأهوار. حكومياً، أشار وزير الموارد المائية، رشيد مهدي الحمداني، إلى وجود مناقشات مع وزارة الثقافة والسياحة والآثار من أجل طمأنة الأخيرة على وضع الآثار، خاصة قلعة آشور التي لن يصلها الخزان" بحسب وكالة الأنباء العراقية. ومن أجل التقليل من الخسائر التي قد تتعرض لها المواقع الأثرية، يرى المسؤولون في وزارة الموارد المائية إمكانية تقليل كميات المياه التي سيتم تخزينها، أو نقل هذه الاُثار إلى مواقع أخرى، أو تغيير مجرى النهر، و بناء جدار بين موقع آشور ومجرى نهر دجلة وهو ما أوصت به بعثة خاصة من اليونسكو زارت المنطقة، بحسب ما نشرت وكالة الصحافة المستقلة. يشير تقرير منظمة ليوان ودراسات سابقة إلى أن مشروع السد سيتسبب في تهجير 40 قرية يسكنها أكثر من 118 ألف نسمة. غياب التنسيق الحكومي وينتقد خبراء وباحثون ما وصفوه بغياب التنسيق بين الوزارات والقطاعات الحكومية العراقية المختلفة، التي تتقاطع مسؤوليتها في تنفيذ هذا المشروع الضخم، ما أدى إلى عدم اتخاذ قرارات واضحة حتى الآن بشأن المواقع الأثرية التي قد تتضرر أو المشكلات التي قد تنجم عن تهجير سكان المنطقة. تقول الدكتورة سارة زعيمي إن "هناك مجموعة من الوزارات المعنية يفترض أن تنسق وتخطط لمشروع كبير كهذا خاصة وأن له تبعات ثقافية وإنسانية ضخمة، منها وزارة الموارد المائية المعنية بتنفيذ المشروع ووزارة الثقافة والآثار ووزارة التعليم ووزارة الهجرة والمهجرين، وللأسف من خلال تواصلنا مع الوزارات المعنية سواء على مستوى المصالح المحلية أو على مستوى العاصمة بغداد لاحظنا أنه لا يوجد هناك تسيق بينها أو اجتماعات للتخطيط". وتشير زعيمي إلى وجود ضغوط من اليونسكو على وزارة الثقافة والآثار التي تحاول من جهتها التنسيق مع منظمات دولية لدراسة وتوثيق كل الأماكن التي ستتضرر، "لكن غير ذلك لم نلمس أي اهتمام، حتى أننا تواصلنا مع عدة وزارات ولم يتفاعل معنا أحد ما عدا وزارة الثقافة.. هذه مشكلة لأن كل هذه الوزارت ستضطر في مرحلة ما إلى التنسيق فيما بينها وساعتها سيكون الموضوع مفجعا لأن الوقت سيكون قد تأخر". ويأمل الخبراء والباحثون وسكان المنطقة أن تستجيب الحكومة العراقية، وتعيد النظر في جدوى المشروع في ضوء المخاطر المحيطة به والتي يرى الخبراء أنها أكثر بكثير من الإيجابيات والفوائد المتوقعة من السد.
*
اضافة التعليق