بغداد- العراق اليوم:
افتتاحية جريدة الحقيقة
فالح حسون الدراجي
حكاية المناضل الشيوعي الشجاع سبهان الملا چياد، تستحق أن تكون فيلماً سينمائياً فخماً، بسبب توافر الحدث و ( الثيمة) والقصة التي لها بداية ونهاية..وتوافر الإثارة والتشويق والدهشة والصدمة بكل مفاصلها.. ناهيك من انتظام التسلسل التاريخيّ وترابط احداثه، وكأن سيناريست كتبه وأنجزه بيده، وليس بيد القدر أو الصدفة المحضة. وللحق، فإن التاريخ العراقي الحديث مزدحم بالقصص والحوادث والوقائع الأخرى التي تستحق أن تكون أفلاماً سينمائية ومسلسلات دراما عظيمة لو التفت اليها ذوو التخصص السينمائي، مثل قصة حفر نفق سجن الحلة التي انتهت بهروب الشاعر مظفر النواب من السجن، وأسطورة صمود الشهيد سلام عادل المليئة بالدم والدمع والشرف، وحركة (حسن سريع) التي لن يأتي التاريخ بمثل تفرُّدها بعد مئة جيل، وقصص نضالية عراقية أخرى، لكنّ قصة المناضل سبهان الملا چياد، قصة مختلفة، فهذا الرجل خالف قوانين الأسرة والقرية، وتمرّد على البيئة التكريتية المتشددة، ومضى لوحده مغرداً خارج السرب منذ صباه، رغم أنه ابن الملا چياد، المعروف والمميز اجتماعياً وعشائرياً وللأمانة فأن ( سبهان ) لم يكتفِ بخروجه عن النص السياسي العام السائد في المجتمع التكريتي آنذاك فحسب، إنما خرج وتمرد حتى على عقيدة أسرته (القومية)، حيث المعروف أن شقيقه الأكبر كان عروبياً قحاً. وكان الكثير من أبناء عمومته وأقاربه واصحابه قوميين أيضاً.. فتخيل عزيزي القارئ أن فتىً يولد قبل أكثر من سبعين عاماً، في قرية ( احليوات ) النائية، وفي بيئة قومية تكريتية عشائرية متزمتة، يكسر المألوف وينتمي للحزب الشيوعي العراقي، وهنا قد يعتقد البعض أن الأمر طبيعي، وممكن جداً حدوثه في تكريت أو في غيرها، لكنّ الذي عاش في تكريت أيام خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، سيعرف كم أن هذا الأمر كان صعباً جداً آنذاك... لذا، ومن هذه الرجولة المبكرة، يمكن لنا أن نعرف قوة شخصية سبهان، وملامحها وتميزها عن شخصيات أقرانه آنذاك. عندما أكمل سبهان الابتدائية في قريته، لم يرمِ القلم من يده، ولم يتحجج بعدم وجود مدرسة متوسطة في قريته كما فعل بعض زملائه، إنما ذهب الى ناحية الصينية، حاملاً قلمه وكتبه وحلمه الذي لم يفارقه قط، فأنهى فيها المتوسطة، ثم مضى إلى بيجي ليكمل دراسته الثانوية في هذا القضاء.. وطبعاً فأنه لم يتوقف عند بيجي، أو حدود محافظة تكريت، إنما ذهب إلى العاصمة بغداد ليدرس في جامعتها التكنولوجية، ويصبح مهندساً، وعضواً أيضاً في الحزب الشيوعي العراقي.. كل هذا وهو لم يزل يافعاً ! ولأنه شيوعي، فقد كان نصيبه الملاحقة من قبل جلاوزة الأجهزة الأمنية بعد تسلّم حزب البعث مقاليد السلطة بانقلاب 17 تموز 1968، فاضطر سبهان إلى الهروب، والقفز عبر الجدار الخلفي للجامعة، و الإفلات من يد رجال الامن البعثي الذين اقتحموا حرَمَ الجامعة ..! لم أكن أرغب بسرد كل هذه التفاصيل، وأُتعب بها القارئ، لولا أهميتها في إيصال الحقيقة التي يجهلها الكثير من الناس للأسف، فمن الظلم أن لا يعرف أبناء الجيل الجديد أن في بلادهم شخصيات عراقية عظيمة.. ولا يعرفون ان سلطة البعث كانت سلطة دكتاتورية دموية مجرمة.. وما الحديث عن زمنها (الجميل) إلا كذبة مدفوعة الثمن، وإذا كان في ذلك الزمن بعض الجمال فعلاً، فهو جمالنا نحن، و من صناعتنا وحلمنا، ومواهبنا نحن العراقيين البسطاء ! المهم، أن صاحبنا، وبعد هروبه من الجامعة، قضى فترة مختفياً ومتخفياً في مدن العراق، حتى تمكن من الهروب إلى سوريا، ومن دمشق إلى بيروت متطوعاً في العمل الفدائي الفلسطيني بصحبة مئات الشيوعيين العراقيين، ولم يغادر ساحة العمل الفدائي في بيروت حتى غادرها ياسر عرفات، و منظمة التحرير، وجميع الفدائيين إلى تونس .. و لم يتوقف هذا الفتى العنيد بعد تجربة بيروت، فقد حمل بندقيته مرة ثانية وصعد إلى جبال كردستان، ليقاتل سلطة البعث ضمن قوات الأنصار الشيوعيين.. وبعد سبع سنوات قضاها مقاتلاً في كردستان، وبعد أن تزوج من إحدى رفيقاته - من محافظة السماوة - كلفه الحزب بالعمل في الميدان الحزبي الطلابيّ السري في الموصل..وبعد ذلك قرر سبهان وزوجته ( العروس) المُضي إلى الميدان الأكثر خطورة، وأقصد به ميدان العمل الحزبي في الداخل.. لكنّ وشايةً حقيرةً أطاحت بهما، فاعتقلا في القطار المغادر. وبعد التحقيق، وتعرضهما الى شتى صنوف التعذيب النفسي والجسدي، حكم المجرم عواد البندر رئيس ما يسمى بمحكمة الثورة، على المناضل سبهان چياد بالإعدام شنقاً حتى الموت، وعلى زوجته التي كانت حاملا، بالسجن المؤبد.. لقد كانت مأساة سبهان في السجن تتوزع بين هواجس وآلام وعذابات الـ 200 يوم التي قضاها في زنزانة الإعدام، وهو يودع عشرات الرفاق والأصحاب الذين تنفذ بهم احكام الإعدام اسبوعياً، وحين يأتي الجلادون صباح يوم التنفيذ ليقرؤوا أسماء ( الوجبة ) التي سينفذ بها الإعدام ذلك اليوم.. وبين خوفه وقلقه على زوجته الحامل، التي كانت تقضي حكمها المؤبد في سجن آخر.. إذ كيف وأين ستلد ابنهما، ومن سيرعاها، ويرعى وليدها في السجن؟ وبين عذابات شعبه ووطنه المبتلى بسلطة فاشية ونار حرب طاحنة لا تنتهي.. وفي وسط هذه العذابات، ولدت زوجته في السجن ابنهما البكر ( غزوان)، فزاد قلقه هذه المرة على ابنه وزوجته معاً. لكنّ الصدفة لعبت دوراً عظيماً حين وصلت الحرب العراقية الإيرانية الى نهايتها في الثامن من آب العام 1988، قبل أن يصله الدور بتنفيذ حكم الإعدام، ليغادر بعدها السجن مع زوجته مشمولاً بالعفو العام سنة 1989، وهو غير مصدق بعد أن رأى الموت يقيم معه في قاطع واحد، وزنزانة واحدة 200 يوماً ..! سأترك سبهان عند محطة الحرية، مع أسرته، وحياته الطبيعية بعد رحلته الطويلة والمضنية في دروب النضال والكفاح والتخفي والسجن والإعدام التي استغرقت ربع قرن من حياته.. وهنا اسمحوا لي أن أحدثكم عن علاقتي به.. في البدء أقول بصراحة، إن تاريخ المناضل سبهان، الذي سردته لكم في هذا المقال، جاء عن طريق المعلومات التي توافر لي بعضها من خلال المقابلة التلفزيونية الطويلة التي اجراها الزميل والصديق العزيز الدكتور حميد عبد الله معه، وأيضاً من بعض الإشارات التي جاءت في مقال الكاتب الكبير سلام إبراهيم، والمعنون: (تجربتي الثقافية مع الحزب الشيوعي العراقي - كراس عن شهيد )، فضلاً عن المعلومات المهمة التي حصلت عليها من بعض الرفاق الشيوعيين الذين رافقوه في محطات معينة من نضاله وكفاحه. أما علاقتي الشخصية به، فلم تبدأ إلا قبل سنوات قليلة، حين اتصل بي تلفونياً الصديق العزيز، المناضل عرفان الحيالي-وزير الدفاع في حكومة حيدر العبادي، والمحكوم سابقاً بالإعدام كذلك ( بتهمة التآمر على الحزب والثورة)، يدعوني إلى مأدبة غداء في بيته العامر، وفي نهاية الاتصال، همس لي عرفان قائلاً: خويه لازم تجي، لأن أكو واحد يحبك وتحبه راح يكون موجود، ويريد يشوفك )!! في اليوم الثاني كنت في بيت عرفان الحيالي، وما أن دخلت صالة الاستقبال حتى فوجئت بوجود المناضل سبهان الملا چياد الذي استقبلني بحفاوة وعانقني عناقاً رفاقياً حميماً كأننا أصحاب منذ زمن بعيد وليس اليوم. وبعد التحية والسلام قلت له بود ومحبة: أبو غزوان أنت (تكريتي) ومثقف، ومهندس، وابن شيخ عشيرة، يعني (لگطة) شلون صدام ما سواك وزير، لو رئيس مخابرات، لو أمين عاصمة لو محافظ على أقل تقدير ؟! فضحك سبهان ولم يعلق !! وهكذا تعارفنا أنا وهذا الرجل الفذ، الذي يملك تاريخاً نضالياً وإنسانياً باهرا يتشرف ويفخر به أصحابه وأهله وأبناء تكريت جميعاً. ومنذ تلك الوليمة الكريمة وأنا وأبو غزوان على تواصل دائم رغم انشغالاتنا، وقد كان آخرها قبل خمسة أشهر، وتحديداً في الحفل الكبير الذي أقامه الحزب الشيوعي العراقي بذكرى تأسيسه الحادية والتسعين حيث لمحته جالساً، وأنا أقرأ قصيدتي خلف منصة المسرح، ابتسم الرجل لي من بعيد محيياً، وحين انتهيت من إلقاء القصيدة، ونزلت، وقف أبو غزوان مع الرفيق رائد فهمي لتحيتي وتهنئتي أيضاً.. وبعد يومين من هذا اللقاء، وجّهت لأبي غزوان دعوة لحضور حفل توقيع كتابي ( ماركس في مدينة الثورة)، لكنه لم يحضر للأسف، مما دعا أحد الزملاء الشباب إلى التعليق قائلاً: ربما لأن عنوان الكتاب يحمل اسم ( ماركس)، والرجل يشغل اليوم منصب المستشار السياسي لرئيس الوزراء، وقد يسبب حضوره إشكالاً معيناً له !! فضحكت وقلت له: لا حبيبي، أنت ما تعرف هذا الرجل زين.. سبهان شبع ضيم وظلايم وما باع ماركس.. أما المناصب فما اشتراها بأول عمره، ومن چانت موجودة جوه رجليه، هسه تريد يشتريها بتوالي العمر؟!
المناضل سبهان الملا چياد
*
اضافة التعليق