بغداد- العراق اليوم:
في صباح 13 نوفمبر الجاري انتشر في بلاد العراق نبأ مؤلم هلعت له الافئدة حيث وجد عبد المحسن بك السعدون رئيس الوزراء قتيلا في داره.
واختلفت الأقوال في سبب الوفاة غير ان الحقيقة لم تثبت ان ظهرت فاذا بهذا الرجل قد ضحى بنفسه في سبيل بلاده.
وكان المغفور له عبد المحسن بك قد قضى ليل الاربعاء 13 نوفمبر الجاري في النادي العراقي وفي الساعة الثامنة عاد الى داره وتناول طعام العشاء كعادته وهو في حالة طبيعية.
الليلة المشؤومة
ثم دخل حجرة مكتبه وجلس بين كتبه وأوراقه وأخذ يكتب كتاب وداع الى نجله علي بك السعدون الذي يطلب العلم في جامعة برمنجهام وذكر في ذلك الكتاب أسباب تفضيله الموت على الحياة ثم وضع الكتاب في غلاف وكتب عليه اسم ولده.
وبينما أهل داره في الحجرات الأخرى إذ سمعوا طلقاً نارياً تردد صداه في جدران البيت فأسرعوا الى حجرة مكتبه فوجدوه مضرجاً بدمائه وبجانبه المسدس الذي قضى به على حياته فضج المنزل بالعويل والبكاء واسرع البعض الى ابلاغ الخبر المشؤوم الى معالي ناجي بك السويدي وزير الداخلية فهرع الى منزل الفقيد مع شقيقه توفيق بك، وحضر على الأثر صاحبا المعالي حكمت بك وخالد بك سليمان ومحمود صبحي بك الدفتري ورستم بك حيدر رئيس الديوان الملكي وحسين بك افنان رئيس التشريفات وانضم اليهم متصرف بغداد ومدير شرطتها ومدير الشرطة العام.
خطاب الوداع
وكان أول ما عثر عليه المحققون ذلك الكتاب المؤلم الذي كتبه الوالد لولده ففض غلافه وتلي ما فيه وكان مكتوباً باللغة التركية وهذا ترجمة ما فيه:
الى ولدي العزيز علي الذي اعتمد عليه اغفر لي هذه الجناية التي ارتكبها ضد نفسي، فقد سئمت الحياة وضقت بها ذرعاً ولم أجد في الحياة لذة ولا ارتياحاً ولا شرفاً، الأمة تطلب الخدمة، والانجليز لا يوافقون، وليس لي ظهير.. والشعب العراقي الذي يطلب الاستقلال لايزال ضعيفاً عاجزاً..
بعيداً عن الاستقلال.. ولكنه عاجز عن تقدير النصائح التي يسديها اليه رجال شرفاء مثلي.
يظنونني خائناً لوطني، عبداً للانجليز.. فيالها من مصيبة كبيرة.
ثق انني كنت مخلصاً لوطني راضياً بالتضحية في سبيله وقد احتملت كل أنواع الاهانات والتحقير القاتل في سبيل بلادي المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي ناعمين مرفهين ولدي الحبيب! نصيحتي الأخيرة اليك:
(1) ان تكون رحيماً باخوتك الصغار الذين فقدوا أباهم وان تحترم أمك وتصدق في خدمة بلادك.
(2) ان تكون مخلصاً وفياً للملك فيصل وذريته.
اعف عني يا ولدي علي!
الامضاء
وبعد ان تلى الحاضرون هذا الخطاب المؤثر الذي يحوي اكبر درس لأبناء قومه وادركوا عظم التضحية التي قام بها هذا الرجل العظيم اثبتوا نصه في اوراقهم الرسمية وارفقوه بمحضر جاء فيه:
هذا الكتاب قد وجد موضوعاً فوق أوراق البك الخاصة وقد تلي أمامنا وأخذت صور منه من قبل الشرطة وهذا هو أصل الكتاب 13-14 تشرين الثاني سنة 1929 وهذا الذي تضمن اكبر برهان على عظمة التضحية التي قام بها رجل العراق وفقيده.
واصدرت الحكومة البلاغ الرسمي التالي تنعي به فقيدها الكبير: تنعي الحكومة بمزيد الأسف والأسى رئيس الوزارة العراقية فخامة عبد المحسن بك السعدون مودعاً الحياة في داره حوالي الساعة التاسعة من مساء الاربعاء في 13 من تشرين الثاني سنة 1929 وقد ترك وصية تاريخية الى ابنه شارحاً فيها ما دعاه الى هذه التضحية.
الملك أمام جثة القتيل
وخرج جلالة الملك فيصل من قصره قاصداً دار الفقيد فلما دخل الدار وقف في خشوع وحزن عميق أمام جثة رئيس وزارته وقال: (لقد خسرناك وخسرتك البلاد يا عبد المحسن).
ثم دخل على أهل الفقيد يواسيهم ويعزيهم وجلس برهة في قاعة الاستقبال ثم قال:
انني آسف جداً لهذا الخطب الجسيم الذي رزئنا به. ومما يدعو الى الفخر ان عبد المحسن بك ضحى بحياته في سبيل الواجب والوطن، يجب علينا من جهة أخرى ان نجد سلوى وتعزية في هذا الحادث الذي دل على ان العراق لن يموت لان تربته تنبت رجالاً عظاماً من امثال عبد المحسن بك السعدون.
لقد قام عبد المحسن بك السعدون بواجبه وخدم وطنه خدمة صادقة في الحياة والممات، اسأل الله ان يتغمد الفقيد برحمته الواسعة وان يلهمنا جميعاً الصبر والسلوان.
جنازة الفقيد
وفي اليوم التالي خرجت بغداد باسرها تودع فقيدها في موكب تاريخي حافل لم تشهد بلاد العراق اعظم منه موكباً، وبلغ عدد الحشد الذي تهافت على جوانب الطريق ليؤدي التحية الى الراحل العظيم اكثر من 150 الف شخص وقد وضع النعش على مدفع حربي ملوفاً بالعلم العراقي ويحف به وكيل القائد العام ومدير الشرطة العام وحاكم المنطقة ومدير شرطة بغداد.
وسار في المقدمة فرسان الشرطة ووحدات الجيش العراقي، وسار خلف عربة النعش اهل الفقيد ورؤساء الأديان ومندوب جلالة الملك وكبار موظفي الحكومة والنواب والشيوخ والوزراء والهيئات السياسية وممثلو النقابات واعيان البلاد حتى وصل الموكب الى مسجد سيدي الكيلاني فصلي على الفقيد وحمل الى المقبرة الكيلانية حيث وروي التراب بين الدموع والحسرات.
وتقدمت وفود المدارس تضع على القبر الذي يضم رفات الرجل العظيم اكاليل الورد في قطع من القماش الأسود، وقد كتبت دار المعلمين على اكليلها هذه العبارة:
دار المعلمين العليا تعظم التضحية في سبيل الواجب الوطني.
وكتبت مدرسة الهندسة على اكليلها: “مدرسة الهندسة تشارك الأمة في مصابها”
وكتبت المدرسة الثانوية: “المدرسة الثانوية المركزية تبكي فقيد الوطن والواجب والاخلاص”.
وهكذا فعلت بقية المدارس ووفود الأقاليم حتى اصبح اللحد جبلا من الورد والأزهار.
ولبست البلاد باسرها الحداد على رجل التضحية واغلقت دور اللهو والتمثيل وعطلت الأعمال العمومية.
تاريخ حياة الفقيد
ولد عبد المحسن بك في العراق في سنة 1878 وهو نجل نهاد باشا كبير اسرة السعدون المشهورة، وكان جده ناصر باشا السعدون حاكم البصرة في عهد السلطان عبد العزيز، ولما بلغ عبد المحسن بك الثامنة عشرة من عمره رحل من العراق الى الاستانة فدخل مدرسة العشائر التي انشأها السلطان عبد المجيد لأسباب سياسية وادخل فيها ابناء رؤساء القبائل والعشائر، وبعد ان اكمل دراسته رقي الى رتبة اليوزباشي وعين ياوراً في القصر السلطاني وظل يرتقي في وظيفته حتى وقع الانقلاب العثماني واعلن الدستور فاستقال عبد المحسن بك من خدمة الحكومة وانتخبه لواء المنتفق نائباً عنه وبقي محافظاً على النيابة الى ان وضعت الحرب العظمى أوزارها واحتل الجيش البريطاني مدينة الاستانة، فعاد الى البصرة مع عائلته في سنة 1922.
ولما شكلت الوزارة النقيبية الأولى في بغداد في مارس سنة 1922 انتخب عضواً فيها وعين وزيراً للداخلية وفي 16 نوفمبر سنة 1922 تولى تشكيل الوزارة بعد استقالة الوزارة النقيبية وفي عهد وزارته صدر البروتوكول الانجليزي العراقي الذي جعل مدة المعاهدة الانجليزية العراقية اربع سنوات بدلاً من عشرين سنة.
ثم استقال من الوزارة في 15 نوفمبر سنة 1923 وعاد فشكل وزارته الثانية بعد استقالة وزارة يس باشا في 26 يونيو سنة 1924.
وفي نوفمبر سنة 1927 هزمت وزارته في انتخابات مجلس النواب فاستقال وتولى الوزارة بعده جعفر باشا العسكري ولكن هذه الوزارة استقالت في 10 يناير سنة 1928 وعهد جلالة الملك فيصل الى عبد المحسن بك بتشكيل الوزارة فشكل وزارته الثالثة وحل البرلمان واعاد الانتخابات وفاز حزبه –حزب التقدم- باغلبية ساحقة.
وفي اوائل هذه السنة رفع استقالته من رئاسة الوزارة ولكنه لبث متولياً اعمالها الى ان شكل توفيق بك السويدي الوزارة الجديدة.
ولم يطل عمرها فقد استقالت في 20 سبتمبر وعاد عبد المحسن بك فشكل وزارته الرابعة.
وقد فقدت بلاد العراق بوفاته رجلاً سياسياً عظيماً وادارياً حازماً ومخلصاً وفياً لبلاده رحمه الله رحمة واسعة وادخله فسيح رضوانه.
عن : الشبكة