بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي افتتاحية جريدة الحقيقة
رحل يوم أمس الأول، المرجع الديني الكبير، السيد محمد سعيد الحكيم، تاركاً خلفه سجلاً مكتنزاً بالمآثر العلمية والجهادية الوطنية، ويكفي أن نذكر للراحل الحكيم سجنه تسع سنوات في معتقلات البعث الصدامي الفاشية، فنال ما نال على أيدي جلاوزة النظام الهمجي، الذي لم يكن يقيم وزناً لأي اعتبار قيمي أو اخلاقي، ولا يراعي حرمة الدين وعلماء الدين، أو يحترم الاعتبار الانساني لرجل كان أو امرأة دون فرق، كما لم يكن يقف عند مهابة العلم والابتكار والتأليف موقف الصون والتقدير، فكان هذا النظام يمنح (مساواته) في القتل والبطش والحبس على الجميع دون تمييز ! هذا في الوطنية والجهاد، أما إرث الراحل الحكيم ومؤلفاته في كتب الفقه والعلوم الدينية والتفاسير والبحوث، فحدّث بلا حرج. وهنا أود أن أشير معترفاً بأني - قبل أن أتعرف الى السيد محمد سعيد الحكيم شخصياً- لم أكن مطلعاً تماماً، ولا راغباً في التوسع بقراءة الكتب والمؤلفات والبحوث الدينية، لأسباب عديدة لا أظن أن الوقت الان ملائم للحديث عنها، سوى إني قرأت عدداً قليلاً جداً من هذه الكتب، مثل كتاب الإمام علي عليه السلام (نهج البلاغة)، وايضاً كتب اقتصادنا وفلسفتنا، والبنك اللا ربوي في الاسلام للشهيد محمد باقر الصدر، ولا غير . لكني انغمرت في قراءة كتب الدين بعد ان كنت متحفظاً، إثر تعرفي على الراحل الحكيم بشكل شخصي ! أما كيف تعرفت عليه، وأنا الذي لا يجتمع خطي مع خطه.. اجتماعياً وثقافياً وايدلوجياً؟ ربما هي الصدفة وحدها التي قادتني لمعرفة هذه المنارة العلمية والجهادية والفقهية العالية ! فقد تعرفت بالصدفة على نجله السيد عبد العزيز محمد سعيد الحكيم ( عز الدين) قبل خمسة عشر عاماً تقريباً، وبسرعة أصبحنا أصدقاء، خاصة بعد أن عرفت ان السيد عبد العزيز شاب مثقف، ومتنور، وقارئ موسوعي لا تتحدد قراءاته بنوع وصنف معين، فهو مثلاً يقرأ في السياسة والاقتصاد والادب، وحتى الرياضة والفنون رغم سماته الدينية والحوزوية. وكان من الطبيعي ان نلتقي عند محطة الثقافة، وتتعمق علاقتنا رغم الاختلافات بين شخصَينا، ووجدت أن هذا الشاب النحيل، الذي يفرض عليك هيبته واحترامه، ذكي جداً، ولمّاح جداً، وسريع البديهة، كما إني اكتشفت انه يعرف اسمي، بل ويقرأ لي أيضاً، مذ ان كنت أنشر مقالاتي في موقع (صوت العراق) المعروف جداً. واستمر التواصل بيني وبين السيد عبد العزيز (عز الدين)، وقد كان من الطبيعي أن يوفر لي هذا التعارف، وهذه الصداقة، أكثر من لقاء مع والده المرجع الكبير السيد محمد سعيد الحكيم. وهنا أذكر- قبل حوالي سبع أو ثماني سنوات، اصطحبت معي الى العراق، ولدي حسون وعلي، وكانا وقتها يدرسان في احدى الجامعات الامريكية، فأحببت أن يلتقي ولداي بالمرجع الكبير، ويتعرفا على شخصه الكريم، فاتصلت بصديقي عبد العزيز، واخبرته بما أرغب واتمنى، فوافق على الفور، وحدد لي موعداً قريباً مع أبيه، وحين ذهبت الى النجف بصحبة ولدَيّ حسون وعلي، وابن أختي جواد، كانت المفاجأة كبيرة، حين علمنا أن السيد المرجع الكبير أمر ولده عبد العزيز أن يعدّ لنا مأدبة غداء في بيته الشريف وليس لقاءً عابراً فحسب، بل وسيتناول هو شخصياً معنا الغداء ! وفعلاً ذهبنا الى بيته المبارك، وتناولنا الغداء بصحبته، وكم كان الأمر مفرحاً لولدَيّ حين منح لهما المرجع الكبير وقتاً واسعاً من وقته الثمين، وتحدث معهما حديثاً ودوداً ذا نكهة شبابية، وطعم متحضر، فمثلاً تحدث معهما عن الدراسة ومستواهما العلمي، وعلاقاتهما مع الآخرين، وعن الحياة الشبابية في الجامعات الامريكية، وهل لثورة الحسين من صدى بين الشباب المسلم وغير المسلم في امريكا، واحاديث مختلفة كثيرة. ثم وضع يده في يدَيّ ولدَيّ، وسحبهما منفرداً بهما في الصالة، بحديث خاص وشخصي، ثم اختتم حديثه معهما ضاحكاً بمودة حين رآني مقبلاً عليهم، وهو يقول: إياكما وأن تقلدا والدكما، فهو شيوعي .. ثم قال لي ملاطفاً : أنت يا أبا احسان من حصة علي بن أبي طالب، مهما صرت، يعني تصير شيوعي، قومي، رجعي .. انت من حصة علي بن ابي طالب!
لقد رحل أبو (عز الدين)، وأبكانا برحيله المفاجئ.
*
اضافة التعليق