بغداد- العراق اليوم: جمال الناصري في شق تحت الأرض من مديرية الأمن العامة ، كانت هناك زنزانات أشبه بالصناديق المغلقة ، يوجد في كل زنزانة فتحة دائرية واحدة هي نقطة الأتصال مع الهواء الخارجي، خلف الفتحة هناك مروحة هواء تستقر في زاوية على الممر ، تتحرك المروحة بأستمرار توزع الهواء الراكد على مجموعة من فتحات الزنازين الضيقة ، ثم تدخل نسمات ضعيفة من خلال تلك الفتحة الى داخل كل واحدة من الزنزانات المختنقة بالزفير ، في كل زنزانة تتكدس أعداد كبيرة من البشر من مختلف الأعمار ، يصل عددهم الى ست وثلاثين أنسانا في مساحة ضيقة لاتتجاوز مساحتها تسعة أمتار مربعة او اقل من ذلك ، يقع ضمن تلك المساحة رقعة صغيرة معزولة بحائط عبارة عن مرحاض صغير، بالكاد يكفي لجلوس أنسان نحيف فقط ، يستطيع ان يتغوط في ثقبها الضيق الذي ينسد بين مرة واخرى، اما من كان بدينا فيمتلأ المرحاض باللحم البشري كاملا .. الزنزانة يعجز عن وصفها العقل واللسان ، جدرانها الصخرية التي تنضح منها رطوبة الأنفاس مع رائحة العرق ، وعفونة الأجساد التي فارقت الاستحمام فترات طويلة لشحة المياه ، ووساخة المكان المغلق ، وفساد الهواء فيه .. الناس هنا كالأشباح يقاومون الموت بأعلى ما يملكون من الطاقة والقدرة على البقاء أحياء ، يقفون على ارجل واحدة في هيئة طوابير ، وقسم أخر ممددون في الوسط ينامون نومهم و يجلسون جلوسهم بالاكراه ، يمسك الواقفون في خرقة من ثوب قديم يحركون بها الهواء المنعدم أصلا ، فيما العرق يتصبب من أجسادهم فيسيح بغزارة ممتزجا مع افرازات الدمامل والقيح الخارج منها حتى يصل الى القاع الرطبة المشبعة بالزفرة القاتلة . عزلة المكان عن العالم ، جعلت من الغريق أن يتعلق بحبال الهواء ، وصول أصوات الأنفجارات التي هزت (بغداد ) على أثر ضربة أسرائيلية لمفاعل (تموز ) النووي، أشعلت الأصوات في الموقوفين جذوة الأمل ، فظنوا أن هناك حدثا كبيرا أيقظ ليل بغداد ، أنقلابا عسكريا أو ربما وصول الايرانيين الى ساحة التحرير ، فهتفوا بصيحات (الله أكبر ) ، فأنتقلت عدوى الهتاف الى جميع الزنازين ، وهم يصرخون بالتكبير .. جاء الحرس كالذئاب المسعورة نحو المكان ، توعدوهم بالموت قبل أن يروا الحلم الذي يراودهم ، فاغلقوا فتحات الهواء كلها الواحدة تلو الأخرى وأطفئوا المروحة الوحيدة ، فانحبست الانفاس داخل الزنزانات ، ثم اخذت تضيق شيئا فشيئا ، حتى بدأت علامات الموت خنقا على وجوه البعض منهم ، علا الصياح والصراخ دون جدوى ..ثم ضعفت مقاومة الأحياء في هذا المكان ، فبدت على الوجوه زرقة الموت ، فتساقطوا الواحد بعد الآخر كالرطب ، يسبقها نزف دماء من الأنف ، ثم يهوي الى الأرض ميتا .. كيف يموت الأنسان خنقا، حين يشح الهواء في الصندوق المغلق ، فيرفس كالطير المذبوح في لحظاته الأخيرة، يلوي برأسه يمينا وشمالا، يفتح فمه وخياشيمه ثم يحاول ان يبتلع شيئا ما في الفراغ دون جدوى ، فيفقد وعيه وتنط عيناه فوق وجهه الى أمام .. .. .. كان الجميع مصاابا بالدهشة والذهول، زاغت الأبصار حينذاك ، ومرت الصور مثل الخيال ، صور هلامية أقرب الى أشباح لا مرئية ، انها رحلة الأنتقال من عالمنا الى العالم الآخر .. فما اكثر الهواء وهو يملأ الأرض، وما أعز الهواء حين يكون شحيحا ، وما أخس البشر عندما يخنق بني جنسه من نعمة الهواء ، ويحرمه من الحياة .. وصل العدد خلال ثلاث ساعات من الأغلاق الى أكثر من خمسين أنسانا ، جاء بعدذلك الحراس اخرجوا الجثث من داخل الزنزانات ، وفتحوا مجددا فتحات الهواء ، ثم شحذوا هراوتهم وعصيهم في حفلة تعذيب وتحقيق حتى الصباح
*
اضافة التعليق
محّد سواها غيرك .. !
وكالة" العراق اليوم" الإخبارية تنشر رأي جريدة الحقيقة في دبلوماسية السوداني
التغيير بين تهويل الطغمة وضجيج الشعبوية
الإفراج عن تسوركوف .. تثبيت للأمن وإنجاز لسياسة الاعتدال ..
إطلاق سراح المختطفة إليزابيث تسوركوف في بغداد
دماء الأبرياء ليست هامشًا… النزاعات العشائرية خطر يضر بسمعة العراق وسلامه الداخلي