الانسحاب من العراق.. هزيمة للعنف وانتصار للدبلوماسية، كيف أقنعهم الكاظمي بقدرته على منع سيناريو "قندهار" أخرى ؟

بغداد- العراق اليوم:

كتب المحرر السياسي في " العراق اليوم ":

بتجرد شديد، وبضرس قاطع، يمكن القول، أن ما أنجزتهُ دبلوماسية الكاظمي وفريقه السياسي والأمني النشط، يُسجًل كحدث مهم في تأريخ العراق، يؤسس لما قبله، وسيؤسس حتماً لما بعده.

كيف؟

ببساطة، أن انجاز حوار استراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي شئنا أم أبينا، هي راعية عراق ما بعد 2003، ومن أجله تكلفت ما تكلفت، ودفعت ما دفعت، وبالتالي لا يمكنها أن تتصور نفسها وهي تخرج مهزومة من بلاد، تريد أن تحتفظ معها بعلاقات استراتيجية ومتوازنة على الأقل، بعد أن عرفت أن

"سياسة الاستتباع" لن تمر مع بلد وشعب مثل العراق، أو هي ودوائرها السياسية قد لا تكون فكرت بهذا الأمر، كما أن الحقيقة الأكثر سطوعاً، أن أمريكا ستهزم وتولي الدبر لأن أزعاجات جانبية قد تقض مضجعها، ليس أمراً وارداً في ثقافتها السياسية والعسكرية، ولا في الحسابات الدقيقة لأمريكا، أذ لا يمكن أن يترك صانع القرار الاستراتيجي الأمريكي خلفه عدواً قوياً وشرساً، حقق ضده انتصاراً، خصوصاً في منطقة فيها للولايات المتحدة مصالح شاملة ومهمة وعظيمة.

والان، وبعد أن قرأنا هذه الفرضيات، يمكننا السؤال عن قدرة المفاوض العراقي الذي خاض اربع جولات من الحوار المعقد، في إقناع الولايات المتحدة، بعدم تحول البيئة العراقية الى ورشة عمل ضد مصالحها في المنطقة، وأيضاً قدرته في  بلورة مشروع انسحاب حقيقي، لا شكلي كما يروج في الإعلام المضاد، وسيكون للعراق استقلاله الواضح في الغد القريب، والأهم من هذا ايضاح القدرات العسكرية والأمنية والاستخبارية العراقية في مكافحة تنظيم داعش والتتظيمات "الجهادية التكفيرية الأخرى" التي قد تستغل أي فراغ او اضطراب لتعيد نشاطها مجدداً، وعلينا أن نعرف أن داعش وهذه التنظيمات الإرهابية ليست عدواً محلياً في العراق، قدر ما هي عدو عالمي تجد امريكا وغير امريكا نفسها مضطرة للدفاع عن نفسها إزائها.

نهج وطني.. تبديد مخاوف المختلف

أذن، كيف تمكن الكاظمي من تبديد كل هذه المخاوف والسيناريوهات المُعدة لمثل هذا الاتفاق؟

الحقيقة، أن الرجل نجح بطول صبر وأناة، في تبديد كل هذه المخاوف، وإقرار خطة واضحة المعالم في تبني اصلاحات جذرية في البلاد، من حيث الأمن والاقتصاد والسياسة وأيضاً عبر تفكيك الكثير من الأزمات الاجتماعية التي كانت تؤجج أو بالأحرى هي مسببات واضحة للعنف في البلاد، ولعل اختفاء " الطائفية السياسية"، وبزوغ النهج الوطني، وقدرة الكاظمي في التسامي على الخلافات الجزئية، كلها جعلت الإدارة الأمريكية تثق في قدرة العراقيين على بلورة حكم لا طائفي في البلاد، وأيضاً في قدرة المكونات الأخرى ( السنة – الكرد، وغيرهما) في التعايش مع حاكم

"شيعي" معتدل كما يمثل الكاظمي الآن في سدة حكم البلاد.

احتواء الاصطدام.. منع الارتطام

واذا ما تجاوزنا الآراء والتعليقات الجانبية التي تصدر من هنا وهناك، حول الموقف من تواجد قوات اجنبية على الأراضي العراقية، فأن موقف الكاظمي كان واضحاً وصريحاً، بأنه يعمل بشكل جاد وحقيقي لاستئصال أي مسببات توتر في البلاد، وأياً تكن، لذا فأن سياسة "تصفير  الأزمات" التي يعمل عليها الرجل، بدأت من معالجة اثار الاصطدام الاجتماعي ومنع تحوله الى ارتطام مدمر، مروراً بعملية تفكيك العقد في المسائل العابرة للطوائف، وصولاً الى بلورة موقف وطني في اجلاء القوات الاجنبية، بعد أعادة تأهيل واستكمال بناء قوات وطنية قادرة على حفظ مصالح العراق، ومنع انزلاقه نحو العنف، أو تحوله الى بيئة عالمية لتفريخ الإرهاب.

ولذلك فأن قراءة موقف الكاظمي، الذي يذهب البعض الى اتهامه جزافاً بالولاء او العمل للمشروع الأمريكي، أو يذهب البعض الى الاتهام بالانحياز للاتجاه المخالف، سيرى أن الرجل يتبع بوصلة وطنية واضحة وصريحة، فانسحاب تحت وابل العنف وعلى عجالة أمر خطير، وتمركز طويل الأمد، وتحويل البلاد الى قواعد للقوات الأجنبية أيضاً أمر لا يقل خطورة، لذا فأنه سعى منذ انطلاق اولى جولات الحوار الاستراتيجي، الى بناء معادلة واضحة، فالانسحاب يجب ان يزامنه تقدم، فكلما تقدمنا في تحصين جبهتنا الوطنية، وعززنا من قدراتنا، كلما تحسن وضعنا التفاوضي، وبات موقفنا أوضح للأخر، وبما يؤمن له أيضاً قدرة على التصرف بخيارات معقولة.

هذا الموقف الذي لم يكن كل الذين سبقوا الكاظمي يضعوه في حسبانهم، حيث أن البعض كان مؤيداً لإبقاء القوات الأجنبية بشكل أو بأخر، او ذاهباً مع خيار انسحاب غير مدروس وكارثي سيحول البلاد الى مستنقع ارهابي عظيم !

لكن الكاظمي المفاوض الذي لم يكن بيده الكثير من الخيارات، ولم يكن قادراً على عرض المزيد من الأوراق، تجاوز عقداً وعراقيل مهمة كانت يمكن ان تشكل احراجاً وضعفاً له ولموقفه في التفاوض، والدعوة لانسحاب امريكي من العراق، خاصة وإن الجيش والمؤسسات الأمنية موزعة الولاءات، كما ان بيئة الانقسام السياسي شجعت على المزيد من التدخلات في شؤون الأمن، واختلط الأمر بتعدد الولاءات الجانبية، لكن الرجل استثمر مناخات الإيجابية، وحول نقاط الضعف الى مناطق بناء وتصحيح مسارات بما أمن له وضعاً تفاوضياً ناجحاً، كما أنتهى اليه الأمر بشهادة العدو قبل الصديق.

غرفة عمليات كبرى قادها رجل الظل الشجاع

لا يفوتنا أيضاً ان نشير الى الجهود المضنية التي بذلتها خلية العمل، وغرفة العمليات الكبرى التي قادها بجدارة المستشار القومي قاسم الأعرجي، والذي مثل الكاظمي تمثيلاً رائعاً، فكان على خط اتصال ساخن معه طيلة المفاوضات، وحين وصل الكاظمي مطار واشنطن، قدم الاعرجي وفؤاد حسين تقريريهما - الأمني والدبلوماسي- عن سير المفاوضات الى

الكاظمي، في صالة المطار التي استقبلا بها الكاظمي.

نعم فقد كان خيار الكاظمي في قاسم الاعرجي خياراً ناجحاً، خصوصاً في موضوعة بناء عقل دولة أمني ستراتيجي فقد تمكنت هذه الغرفة من العمل في جبهات متعددة ومختلفة في آن واحد، فمن تحصين المؤسسات الداخلية، الى التواصل الخارجي، الى ممارسة دبلوماسية أمنية واستخبارية فعالة، وصولاً الى "هندسة وتنفيذ" اتفاق مشرف وحقيقي.

فالأعرجي، يشكل برأينا عبر  وقوفه مع  الكاظمي، قوة امنية تتسم بالهدوء والاتزان والتعقل والدقة،  لذلك نجد أنهما قد حققا الكثير من المهمات في سبيل انجاز البلاد أولوياتها وقد كانت المفاوضات مع الامريكيين وتحقق المهمة بأحسن حال، دليل على التوافق الطيب بينهما، وبين بقية فريق الجهد التفاوضي العراقي الآخر، سواء الدبلوماسي، أو العسكري الأمني، وأثبتت هذه المفاوضات، مركزية القرار القيادي القوي للرئيس الكاظمي، مع توفر الاستقلالية العالية التي تمتع بها المفاوضون العراقيون من صناع القرار الأمني، وقدرتهم في التعامل بحرية مع مثل هذه القضايا بشكل بعيد عن الانحيازات أو الاصطفافات الجانبية او لغة المحاور المتصارعة، وقد حصل هذا بفضل الكاظمي الذي وفر هذه الحرية للاعرجي وفؤاد حسين وبقية المفاوضين.

أن هذا الانسحاب هو صناعة كاظمية واضحة، وبصمة توضع في سجل الرجل الوطني الذي ابتعد عن الطائفية، وتجاوز الميول الدنيا، وقدم مصلحة بلاده بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وأيضاً تعهد بشكل قاطع أن يكون ما بعد الانسحاب الأمريكي مرحلة أخرى جديدة في مستقبل البلاد، وأن لا يتكرر سيناريو أفغانستان أخرى في العراق، ولن تكون أي مدينة عراقية " قندهار" ثانية في الشرق الأوسط مهما كلف الأمر.

ونحن واثقون بما قاله وتعهد به الرجل.

علق هنا