بغداد- العراق اليوم: فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة
حين غادرت أمريكا عائداً الى العراق قبل احدى عشرة سنة تقريباً، تاركاً عملي في إذاعة العراق الحر (في براغ) بعد أن قضيت في هذه الإذاعة الرائعة أكثر من 11 سنة، لم يكن معي أكثر من خمسمائة دولار، وهي كل ما أملك في هذه الدنيا.
وللحق، فقد فتح الزملاء في بغداد أمامي أبواب صحفهم، لأكتب فيها بما أريد، وما أشاء، وكان أولهم الزميل الراحل ستار جبار رئيس تحرير جريدة البينة الجديدة، الذي خصص لي صفحة كاملة في الجريدة، بعدها، استقبلني الزميل العزيز حسن جمعة رئيس تحرير جريدة النهار أطيب استقبال، حتى أنه تنازل عن عموده الافتتاحي اليومي لي، لأكتب فيه بحرية تامة. وبعد أشهر قليلة، غادرت النهار أيضاً، فقد كان يدور في رأسي (موّال) تتركز نغمته على تأسيس جريدة خاصة بي، ولكن (منين يا حسرة) ؟!
بعد ذلك، كتبت في الصحف الرياضية خلال هذه الفترة، ومنها عمود سياسي رياضي يومي في جريدة (سبورت تودَي) التي رأس تحريرها آنذاك الصحفي اللامع علي رياح، كما كتبت ايضاً في جريدة (رياضة وشباب) التي يرأس تحريرها الصديق العزيز جعفر العلوجي.. وبعد فترة، غادرت هذه الجريدة ايضاً. فرنين (الموال) لم يغادر رأسي، حتى وأنا أكتب ثلاث مقالات في الأسبوع لجريدة (السياسة الكويتية)، أو (القبس)، وأتقاضى أجوراً ممتازة.
لذا، قررت أن أستجيب لما يصدح ويدوي في رأسي، وأحسم الأمر.. وهكذا انتصر الحلم الذي راودني مذ بدأت الكتابة في مطلع سبعينيات القرن الماضي، فأتوكل على ثقتي بنفسي لتأسيس جريدة يومية، مهما كانت النتائج!
ولكن، كيف أؤسس وأفتتح جريدة، وانا لا أملك شيئاً؟
ويأتي الجواب في احد المساءات الصيفية، حين كنت جالساً في بيت الصديق جواد البولاني، وقد عرضت في سياق الحديث دون قصد، فكرة إصدار جريدة يومية، وكان جالساً معنا وقتها والده الحاج كاظم رحمه الله، فقال البولاني: أنا أتبرع للجريدة بهذه المولدة الكهربائية لتدبر لكم عملكم إذا ما تعرضت الكهرباء (الوطنية) للتوقف، وقد أشار بيده الى المولدة الكبيرة المركونة في الباب، فقلت له رافضاً: لا يمكن لي أن أأخذ مولدة بيت الحجي أبو جواد! لكن (أبو جواد) نهض وقال: بل ستأخذها، وأنا احملها معكم بيدي الى السيارة ..
ومن مولدة (أبي جواد) تلك، بدأت مسيرة جريدة (الحقيقة)! لكنّ أمراً يجب ذكره، هو أن الصحف لا تؤسس بالمولدات فقط، إنما بالكادر والأموال، والبناية، وغير ذلك.. وأنا لا أملك منها شيئاً.
وطبعاً، لم تكن لدينا مشكلة في اختيار اسم الجريدة، فقد كنت قد سميتها (الحقيقة) مذ فكرت بتأسيس جريدة قبل سنوات..
ومن هنا كان علينا أن نتصل بالزملاء المطلوبين، الذين يرغبون بالعمل معنا في هذا المشروع الوطني التقدمي، ويتوجب علينا ايضاً اختيار زملاء من نوع خاص، فهويتنا الفكرية والإعلامية هي خاصة جداً، لذلك بدأنا بوضع قائمة بالأسماء للتحرك نحوها، ورحنا نتصل بهم، ومن حسن الحظ فإن اغلبهم وافق على العمل معنا في هذه الجريدة التي يؤمن أغلب العاملين فيها، بقيم كتابَين معاً : رأس المال، ونهج البلاغة! ولَعمري، فإن هذه المعادلة صعبة جداً، لا يقدر على التوازن بها ومعها سوى نوع خاص من الصحفيين.
لحد تلك اللحظة، ونحن لم نتدبر الأموال المطلوبة بعد، لذلك، كان عليَّ أن أستعين بزوجتي (أم حسون) وليس بصديق كما معتاد في المسابقات الحرجة.. لكن كيف أقنعها بأن تتخلى عن صيغتها الذهبية لحين الوقوف على أقدامنا، واعادتها اليها بعد حين، وأنا أعلم تماماً مدى اعتزازها بهذا (الكنز)، ليس لأنها صيغة ذهب (عرسها) فحسب، انما لأنها (ذخيرة العمر) كما تسميها، وحين فاتحتها، فاجأتني، ووافقت حالاً على تقديم كل (خشلات عرسها)، وهي فرحة سعيدة وراضية، مادام هذا المشروع سيسعدني، ويحقق أمنيتي، خاصة وهي تعرف برغبتي المجنونة في اصدار جريدة تترجم فكري وثقافتي وعنواني، لذلك أعطتني بطيبة خاطر، صيغتها التي حافظت عليها من (الضياع) أكثر من ربع قرن..
بعتُ (المصوغات الذهبية) بأربعين ألف دولار، وذهبت في الحال مع الصديقين عباس غيلان وعلي المالكي الى أحد مكاتب العقارات، واستأجرنا بيتاً في شارع فلسطين، بمساعدة الصديق العزيز رسن بنيان، وتسلمنا المفاتيح، وحين وضعت ليلتها المفاتيح تحت وسادتي، شعرت وكأني أضع مفاتيح كنوز سليمان تحت رأسي!.
وهكذا، بدأت (جريدة الحقيقة) تتأسس وتنمو، فبدأنا بصبغ الدار، وإنشاء مطبخ صغير في الحوش، بعد أن حولنا المطبخ الأصلي الى غرفة للأرشيف، ثم جاء دور المناضد، والكراسي، والأضوية، والستائر، والأختام، والأفرشة الأرضية، و المستلزمات الورقية والأحبار وووو..
واتصلنا بالزملاء الذين وقع الخيار عليهم، ولم يكن الزميل والشاعر المبدع عدنان الفضلي في التشكيلة (فقد كان يلعب في فريق آخر)، ولكن أمراً إشكالياً قد حدث بعد شهرين من الإصدار، حيث تخلف وقتها الزميل مدير التحرير عن الحضور لأسباب عائلية خاصة – دون أن يخبرني لأحتاط وأتدبر الأمر، فصرتُ في وضع محرج، خاصة وأني لم أكن وقتها في بغداد، فاتصلت بالزميل الفضلي تلفونياً، وطلبت العون منه، راجياً انقاذ الموقف.
فلم يخيب عدنان أملي، ووافق فوراً على الحضور الى الجريدة، ولم يقل لي ساعتها بأنه ذاهب الى الأنبار للمشاركة في مهرجان شعري كبير. المهم أن عدنان قطع سفره، وعاد مسرعاً في سيارة ثانية الى الجريدة، ليدير التحرير بأحسن ما يكون، ومنذ ذلك اليوم، وأنا أتمسك به في إدارة تحرير الجريدة في غيابي، أو في وجودي احياناً.
وليس عدنان وحده فحسب، إنما كلهم رائعون، فأنا فخور بكل الموجودين معنا اليوم، وهم ينجزون للناس جريدة الحقيقة. وأختم مقالي بنقطتين، الأولى: إن العزيمة والإصرار قادران على تحقيق الحلم، مهما كانت الظروف صعبة. والثانية: إن زوجتي (أم حسون) مازالت تتأمل وهي متأكدة من أني سأعيد لها صيغتها حتى بعد مرور إحدى عشرة سنة أو أكثر، فالوفاء بالوعود والالتزام بالكلمة، لا يسقطان بتقادم السنين.
*
اضافة التعليق