بغداد- العراق اليوم:
كتب المحرر السياسي في ( العراق اليوم) :
مثل أحجار الدومينو، تنهار المُدن الأفغانية الآن، امام قوات حركة طالبان المتشددة، الحركة التي كانت سبباً في احتلال البلاد من قبل القوات الامريكية في العام 2001، بعد ان قامت بأحداث 11 سبتمبر 2001، عبر تنفيذ هجمات ارهابية غير مسبوقة في الولايات المتحدة الأمريكية، وتسببت تلك الهجمات بتغييرات عالمية، حيث دخل العالم، مرحلة أخرى من مراحل الحروب الجديدة، وبدء ما اصطلح عليه في معاهد التفكير السياسي الاستراتيجي، حقبة الحرب على الإرهاب!.
طالبان ، الحركة التي تتأصل فقهياً من مدرسة التكفير الوهابية التي أسسها محمد بن عبد الوهاب، وتنطلق من ثوابت وزواج" كاثوليكي" بينها وبين تنظيم القاعدة الإرهابي، الذي وجد في الأراضي الأفغانية نهاية ثمانينات القرن الماضي، أرضاً خصبة لإقامة امارة " اسلامية" قائمة على تنفيذ الشريعة وفق المقاسات الوهابية المتشددة.
اليوم وبعد 20 عاماً من الحرب الامريكية ضد حركة طالبان، تعود الحركة في غضون 7 ايام فقط، من بدء سحب القوات الأمريكية والتحالف الدولي، لتُسقط 218 مديرية افغانية من مجموع370 مديرية، تشكل الخارطة الادارية لأفغانستان. ويندفع مقاتلو الحركة لأسقاط منافذ الدولة الأفغانية الحدودية، مع ايران وتركمانستان وطاجيكستان وغيرها من الدول التي تمتلك حدوداً مع هذه الدولة، في مشهد مثير وصادم!، وانهيار تام للقوات الأفغانية الحكومية التي جرى تدريبها والانفاق عليها سنوات طوال!. لقد نجحت الحركة في عزل الحكومة الافغانية التي يقودها الرئيس المُنتخب أشرف غاني، بعد ان قطعت كل شرايين البلاد مع العالم الخارجي، لاسيما بعد ان اسقطت منفذ "إسلام قلعة" الذي تعتمد عليه 20 مدينة افغانية رئيسية في تجارتها مع ايران، اذ يقدر حجم التبادل التجاري الأسبوعي حوالي 20 مليون دولار، واندفعت قوات الحركة المزودة بدافع طائفي، لتهاجم بعنف وشراسة وقسوة شديدة، مراكز المُدن الكبرى، ومنها مدينة قندهار!، معقل القاعدة السابق، والمدينة الأكثر أهميةً في تاريخ الصراع الافغاني!.
يصف متحدث بأسم طالبان الإرهابية، الحكومة في كابول الأن بالمحتضرة، فيما يقول مسؤولون أمنيون غربيون، أن مسألة "دخول التنظيم الإرهابي للعاصمة الأفغانية، قد لا تتعدى مسألة وقت قليل"، أذ أحكمت الحركة سيطرتها عمليًا على 85% من مجموع الأراضي الأفغانية، واقتحمت مدينة هرات التي تسكنها أقلية الهزارة الشيعية، وقامت بارتكاب مجازر مروعة كما تقول الأنباء القادمة من هناك، وسط صمت مطبق من ايران الجارة الشيعية!، التي أتضح أنها تستضيف وفوداً من طالبان على أراضيها، وتعمل بالشراكة معهم على إقامة "نظام اسلامي"، كما تقول وكالات الانباء الايرانية الرسمية وشبه الرسمية بعد نشرها خبر المفاوضات التي تجري على الأراضي الايرانية، اذ تحاول طهران استبدال النظام السياسي القائم في كابول بأخر، تشترك فيه طالبان ( ذات العقيدة التكفيرية، والتي قامت بمجازر على أساس طائفي، وتولت عمليات ذبح وإبادة أقلية الهزارة الشيعية مرات عدة في تاريخ سيطرتها على البلاد، عقب خروج القوات السوفياتية من الأراضي الأفغانية).
هذه التطورات الدراماتيكية، لم تأتِ بشيء خارج التوقعات، فبعد عقدين من الحرب ضد تنظيم طالبان الإرهابي، لم تتمكن البلاد من هزيمته واقتلاعه من البلاد، ولربما كانت الأيادي الخفية التي تمتد لمساعدة التنظيم من الدول الإقليمية، ومن بينها روسيا والصين وايران، سبباً في بقاء هذا التنظيم قوياً، وخاملًا في بعض الأحيان، لكنه نشط ما أن بدأت إدارة الرئيس الامريكي جو بايدن بتنفيذ انسحاب عسكري، وصفهُ مسؤولون افغان وحتى من القادة الامريكيين بأنه انسحاب لا مسؤول ويعرض البلاد الهشة الى حرب اهلية أخرى، وقد ينتهي بكارثة في المنطقة برمتها!.
نجح أعداء امريكا، أذن في دفعها الى الخروج من المستنقع الأفغاني مهزومة، واستفادت طالبان من هذا الدفع الإقليمي في ان تستعيد ما فقدته في حرب شاملة شُنت عليها وأسقطت امارتها الظلامية، لكن الخاسر الوحيد من هذه العودة الطالبانية، هو الشعب الأفغاني الذي تنتظره اياماً صعبة وقاسية جداً، مع حركة متوحشة مثل طالبان التي منحها المتصارعون مع امريكا ورقة صلاحية جديدة، بعد أن لفظها الشعب الأفغاني المتطلع نحو الحرية والانعتاق من ربقة تخلفها.
السيناريو الأفغاني ..عراقياً
مخطئ جداً من يعتقد أن جغرافيا الإرهاب منفصلة، وأن ما يحدث في أي بقعة من هذه المنطقة، لا يؤثر على البقاع الأخرى، أذ أن هذه الجغرافية السياسية تكاد تكون متأثرة بفاعل سياسي مشترك، وبمناخ موحد تقريباً، نظراً لتشابه المشاكل، وأيضاً توحد الأعداء في أي منقلب يعاني من سطوة وحضور الجماعات المتشددة والتكفيرية.
الجميع يعلم أن "طالبان" نتاج تنظيم القاعدة الإرهابي، وهذه المدرسة الفكرية المتأصلة للأسف، تحمل ايدلوجيا الكراهية الدينية والقتل، وتنتج اجيالًا متباعدة شكلاً أو مكانياً، لكنها تستقي من ذات البركة الفكرية الآسنة، أذ ان القاعدة " فرخت" طالبان، وقبلها المجاهدين العرب، وداعش، وجبهة النصرة في سوريا وبوكو حرام في نيجريا ، وعشرات الحركات المشابهة لداعش والنصرة وغيرها من التنظيمات التكفيرية الإرهابية. تولت القاعدة تنفيذ اعمالها الاجرامية الارهابية في العراق بين عامي 2003 و2014، بشكل مباشر بعد أن وجدت لها حاضنة اجتماعية، عمل النظام السابق على السماح بنموها ضمن ما اطلق عليه بالحملة الإيمانية آنذاك، وانتجت القاعدة كما قلنا، بعد ذلك تنظيماً متشدداً أخر كداعش الإرهابي الذي لا يزال يشكل خطراً واختراقًا للأمن في جغرافيا الشام والعراق.
الآن، ومع هذه الانتكاسة الواضحة في جهود التخلص من هذا التشدد وهذه الحركات، فأن نشاطاً لهذه الجماعات التي نزلت تحت الأرض، لابد ان يعود، ولا بد أن يستثمر الفاعل الإقليمي – المعادي لأمريكا لمصالح الذاتية- في هذه الحركات لتكرار السيناريو الأفغاني، وقد يكون هذا في العراق على اية حال، فذات الظروف الموضوعية متواجدة هنا، وداعش والقاعدة وغيرها من التنظيمات ذات الأهداف المشابهة لطالبان، لا تزال نائمة، وتريد أن يحفزها أي انتصار، وأن بدا هشًا مثلما يحدث الآن، كي تعود لتكراره، وهنا يبزر السؤال: ماذا أعددنا لمواجهة هذه الاحتمالات
والسؤال الملح هنا: ماذا استفاد الإيرانيون مثلاً، من عودة وجود قلق دائم على حدودهم مجدداً، كما يشكله وجود طالبان طليقة، وحرة وقوية، وقد يعود تنظيم اخر مثل داعش، للعمل في جغرافيا اخرى، بعد أن تنجح ايران او حلفائها، او الروس والصينيون بدفع القوات الدولية لمغادرة العراق، وسوريا.
من سيكون الخاسر الأكبر في حال تكرار هذا السيناريو يا ترى؟.
هل سترحم داعش واخواتها, العراقيين في حال تمكنت ثانيةً، خاصةً وان هذه الشعوب قد طاردتها وقاتلتها بشراسة، واستطاعت التغلب عليها وهزيمتها.
نعي تماماً أن الظروف العراقية مختلفة عن الظروف الأفغانية، لكن هذا لا يمنع من التفكير جدياً، وقراءة المخفي والمُستتر في دعوات الاستعجال باستبعاد دور التحالف الدولي الذي لا يزال يعمل بشكل حقيقي على الأرض في متابعة خلايا التنظيمات العابرة للحدود، ويزود القوات العراقية، وصانع القرار الأمني بمعلومات قيمة، فضلاً عن تكنولوجيا متقدمة في مجال متابعة الشبكات، والتتبع الفضائي وغيرها من الخدمات اللوجستية التي تستهل مهمة تتبع هذه الجماعات الخطرة على المجتمع. أن استقراءً سريعاً للسيناريو الأفغاني يجب أن يدفع صانع القرار السياسي في بغداد، أن يعيد ترتيب كل الفرضيات، ويعيد تشكيل كل الأولويات وفق المصلحة الوطنية العراقية، لا وفق مقاسات واشتراطات الأخرين، الذين لا يهمهم في الواقع سوى أمنهم القومي، وقدرتهم على البقاء لاعبين مؤثرين في المشهد الإقليمي، حتى لو تطلب العمل مع اشد الأعداء ايدلوجياً، أو التضحية بأقرب الأصدقاء والحلفاء، وهو ما نراه الآن حاضرًا في السيناريو الأفغاني المثير جداً.
*
اضافة التعليق