بغداد- العراق اليوم: المكان : شارع فلسطين في بغداد. الزمان : الساعة تتجاوز الثالثة من يوم صيفي حار، وبالتحديد يوم 23 حزيران عام 1969، يخرجُ القائد الشيوعي، ومسؤول الخط العسكري للحزب، من بيت حزبي( وكر) في حي المعلمين، متوجهاً لمحطة وقوف الباصات في شارع فلسطين، ليستقل أحدها، راجعاً الى بيته بعد أن انجز عملاً حزبياً في الوكر، الناس تسير ببطء تحت الحرارة اللاهبة، والمساء يحاول ان يقترب لينهي ظهيرة ساخنة، لكن ثمة قتلة يقفون، متربصين، تحت احزمتهم أدوات موت، وعيونهم تلمع، القائد الشيوعي (المقصود) يقترب، فيزداد ايقاع نبضهم، يقترب أكثر، وقلوبهم يزداد نبضها أكثر فأكثر .. وها هي اللحظة المناسبة للتنفيذ تزف. نفذ.. يقول احدهم، وهو يضع يده على مسدسه، بينما يركز الأخر على جسد الضحية باستغراق، ليحدد مكان الرصاصة التي يجب ان تكون نافذة، وتنهي المهمة بأتقان، كما أوصتهم دوائرهم الأمنية التي كان يديرها أنذاك، سفاح عصره، ناظم كزار. يقترب ستار خضير صكر الحيدر، الشيوعي صاحب التسعة والثلاثين ربيعاً، من محطة الباصات، يعالجه أحد القتلة برصاصة غادرة، تخترق بطنه، لا يترنح، لا تخور قواه، ولم يسقط، وهو الذي خبرَ الحياة رغم قصرها، وخاض صعوباتها، فمثله يأبى أن يسقط على الأرض، لذلك راح يلاحق قاتليه ودمه ينزف بقوة، فيصرخ منادياً بأعلى صوته : أنا ستار خضير الحيدر، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، إغتالني أفراد الأمن البعثي غدراً، فأرجو أن يصل صوتي للحزب والشعب.. فأنتشرت كلماته في المكان كما ينتشر العطر الزكي الفواح، فتعلو كلماته فوق صوت الرصاص، ويصل الى أحد القتلة، فينقض عليه كأسد جريح، ويسقطه أرضاً، لكن نزف الدم يفعل فعلته، فترتخي قبضة الشهيد أكثر، ويعاجله القاتل السافل برصاصة جبانة أخرى، فيفلت من قبضته للأسف، وينجح القاتلان في الهرب. أسدُ جريح يزأر وسط جموع الناس، الصمت والوجوم والخوف يملأن فضاء المكان، والناس على رؤوسها الطير، القتلة إذن عادوا الى جحورهم كما تعود الأفاعي الى جحورها دون أي شعور بالذنب، او الندم .. دبق الأجواء، أشعة الشمس الفضية، ولزوجة الدماء الطرية، تجعل المنظر هائلًا، لقد قتلوه، يقول العابرون من ذلك المكان. ولم ينتهِ القتل عنده بالتأكيد. ستار فتى العمارة الثوري.. أو جيفارا بمواصفات عراقية من العمارة، عروسة الجنوب، وموئل الجمال والشعر والمياه، ومن اخاديدها المليئة بالقصب، وأصوات المطربين، ومن على ضفاف دجلة العظيم، انطلق ستار خضير صكر الحيدر، من عائلة مندائية عراقية، في رحلة كفاح قصيرة، قصيرة جداً بمقاييس الزمن، لكنها رحلة كفاح طويلة، جرب فيها الرجل صراعاً متنوعاً، من منازلته للاقطاع، الى ثورته ضد الرجعية، وصولاً الى نضالات الثورة المجيدة، التي سرعان ما اجهضتها يد الأستعمار، ويد الرجعية والاقطاع، نعني ثورة 14 تموز المجيدة التي فجرها الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم. ففي العام 1930 كان خضير صكر الحيدر على موعد مع ولادة أبنه الذي سيصبح أحد مناضلي العمارة، ستار، الذي نشأ في عائلة تمارس اعمال صياغة الذهب، وهي من المهن التقليدية التي لا يزال الصابئة يتوارثونها جيلاً بعد أخر، فلم يشأ أبن صائغ الذهب، أن يظل في هذه الدورة، مطوعاً للذهب، باحثاً عن اجياد النساء ليضوغ لهن القلائد، فيما تتحول القلائد الى اغلال وقيود تقتل الانسان وتفتك بكرامته في ظل نظام أقطاعي متخلف. يحرص الأب ان يلحق أبنه (ستار) بالمدرسة الابتدائية، فيدخلها في العام 1937، ويتخرج منها في 1943، وقد بدأ رحلة المعرفة، وبدأ يعي من يشهده العالم من صراع حوله، وهنا تبدأ رحلة أخرى من متوسطة العمارة، حيث يسمع لأول مرة حديث السياسة، ويعرف تنوع مشاربها، ومن المفارقات ان يكون زميله في هذه المتوسطة، قاتله ايضاً، ناظم كزار. يمضي ستار قدماً في انتمائه للفكر الشيوعي، ويتحول الى كادر من كوادر الحزب السري كما كان يسمى آنذاك، ويتعرف حينها على شخصية وطنية، وهو الشيخ حسين الساعدي، الرجل الذي يملك محلاً لبيع السجائر والتبوغ، الذي يحدثهم عن الظلم والمأساة التي يعيشها الشعب، والسبل لتحرير الأنسان من نير العبودية والجهل. في الصف الثالث متوسط، وحين كان الفتى يزداد وعياً وتأصلًا في الفكر السياسي الجديد الداعي للتحرر، تقع وثبة كانون 1948، فيخرج مع زملائه من هناك في تظاهرة تجوب شارع العمارة الوحيد آنذاك، مطالبين بإلغاء معاهدة بورتسموث الاستعمارية، وإسقاط حكومة صالح جبر !. هناك يبدأ أول فصول المواجهة مع الشرطة ورجال البوليس الملكي، الذين هاجموا المتظاهرين اليافعين بالرصاص الحي، فيسقط زميله الذي كان الى جواره شهيداً، ويعتقل الأخرون، بينما يفلح هو بالهرب من قبضة رجال الأمن. أكمل ستار الثانوية واجتاز دورة اعداد المعلمين، ليعين للمرة الأولى معلماً في بغداد عام 1951، وتحديداً في أحدى مدارس ابو غريب، لكنه لم يمضِ سوى أشهر معدودة، حتى يفصل من المعارف لنشاطه السياسي المعادي!. ويقفل عائداً الى العمارة، وبالتحديد ناحية الكحلاء، وهناك يمارس عمله فلاحاً مع فلاحي مدينته، لكنه فلاح ثوري، يأخذ بتعليمهم ابجديات الثورة، ويوزع عليهم منشورات حزبه المناضل، ويستنهض هممهم للثورة على هذا النظام المتخلف. فيتعرض بعد ذلك للاعتقال، ويقضي قرابة الثلاثة اعوام في السجون المختلفة وصولاً الى لحظة ثورة 14 تموز 1958، حيث يكون ستار قد بلغ وقتها 28 عاماً فقط، لكنه اجتاز كل مراحل النضال الطويلة. عمل بعد ذلك في مصرف الرافدين، موظفاً إلاً أنه غادر الوظيفة بعد توجيه حزبي، ليتفرغ لبناء تنظيمات الحزب الشيوعي في شمال العراق التي تعرضت لانتكاسة بعد حركة الشواف الغادرة، والمجازر التي ارتكبت بحق الكوادر الشيوعية من القوى القومية والرجعية والاقطاع. امضى اعوامه هناك، ونجح في بناء اول تنظيم عسكري في كردستان العراق، وحاول جاهداً منع استدراج ثورة تموز للسقوط في فخ المواجهة مع القوى الكردية، لكن المحذور وقع في 1963 بعد مؤامرة دولية واضحة اطاحت بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم. تدرج ستار خضير ( أبو مي ) في المواقع الحزبية حتى وصل الى مركزية الحزب، ومسؤولاً عن خطه العسكري. بعد انقلاب البعثيين وانقضاضهم الثاني على الحكم في 1968، ادركوا خطورة مثل هذه الشخصية الثورية القوية، وكيف يمكنها ان تشكل خطراً على وجودهم ومشروعهم الخبيث، لذا لم يتركوه اكثر من عام واحد لينفذوا تلك الجريمة النكراء في ذلك اليوم القائض، وليفارق الحياة في مثل هذا اليوم بالتحديد قبل 52 عاماً. إن هذا المصرع الملحمي الفذ، والنهاية التي تشبه نهايات الرجال العظام، الذين تخلدهم الروايات، وتتناقل مأثرهم صفحات التاريخ، لا يزال فيه لغز محير يريد رفاقه ومحبوه ان يفككوه، ولا يزال السؤال الأهم حائرًا يدور في الصدور، ماذا لو لم يقتل ستار الحيدر في ذلك اليوم المشؤوم، وماذا لو لم يفقد الحزب الشيوعي هذا القائد التنظيمي الفذ، وكيف ستكون المعادلة، وهل سيبقى للبعث باقية، وهل سيحكم هولاء الجلاوزة البلاد بالحديد والنار ويأخذوها نحو مصيرها المأساوي؟. أسئلة كلما حاولت ان تستكين للنسيان، جاءت عاصفة ذكرى الحيدر الدامية لتبعثها كالعنقاء.
*
اضافة التعليق