بغداد- العراق اليوم:
إلعبوها صح ولو لمرة واحدة
جبار علي اللعيبي
لن أخوض داخل هذة الحلقة في حيثيات التحديات الكبيرة التي تنتظر قطاع النفط والغاز في العراق بل سأتركها إلى حلقات قادمة، ولكن منطق الضرورة والحفاظ على المصلحة الوطنية يقضي علينا أن نسخر ما توفر لدينا من خبرات واسعة ومتراكمة في صناعة النفط من أجل خدمة الصالح العام، وأن نوجه نداء إلى وزارة النفط يتضمن عرض وجهة نظرنا للمساعدة على الوضع الشائك والضبابي الناتج من مساعي بعض شركات جولات التراخيص للانسحاب وبيع حصصها إلى شركاء آخرين، وهو ما خلق وحسب متابعتي حالة من الاضطراب وعدم وضوح الرؤى.
في تقديرنا أنه ما لم يتم التعامل مع هذا الوضع بشفافية علمية وعملية مستندة إلى المصلحة الوطنية فإن المردودات ستحمل معها سلبيات ليست بالقليلة، وستتفاقم الإشكالات حتى تنتهي في آخر المطاف إلى تراجع كبير في مسيرة القطاع النفطي كله، ومع ذلك فالصورة ليست تشاؤمية بالكامل، وهناك فرصة ذهبية في الطرف الثاني من النهر تنبثق من المستجدات الجديدة تحتم على وزارة النفط أن تسخّر كل إمكانياتها لخلق وضع جديد نافع وعامل وعادل ومتوازن في عقود جولات التراخيص.
ومن المفيد التطرق ولو بايجاز إلى الجوانب السلبية والإيجابية، وربما الهفوات، في تلك العقود، مع التذكير بموقفنا المعاكس لتلك العقود خلال فترة إدارتنا لشركة نفط الجنوب، هذا مع أنني مازلت أحمل نفس الإيمان والقناعة بضرورة بذل أقصى الجهود المتاحة لزيادة معدلات إنتاج النفط العراقي واستثمار الغاز؛ وذلك لدواعٍ واضحة تكمن في تسخير ثروات البلد في إعادة البناء والتنمية.
إن وجهة نظري التي كنت ومازلت أحاول إيضاحها بخصوص تلك العقود تشمل العديد من الأبواب والظواهر، سأضع هنا جملة منها:
1 - شملت العقود الغالبية العظمى من الحقول العراقية، سواء المطوّرة أو قيد التطوير أو تلك الحقول غير المطورة نهائياً. ويفترض أن يكون مسار تلك العقود مستندًا إلى ستراتيجيات وخطط وبرامج علمية، ويصار إلى التركيز على الحقول العملاقة غير المطوّرة وتلك التي قيد التطوير، في حين يتم تطوير الحقول القديمة والعاملة من خلال آليات وعقود بصيغ مختلفة.
2 - لقد صيغت تلك العقود بتسرع وعلى عجالة؛ إذ إن هذا العدد من العقود وما فيها من إجراءات وأبواب فنية وإدارية وقانونية في أعلى المستويات تحقق خلال فترة زمنية قصيرة جداً؛ مما أدى في نهاية المطاف، وخلال فترات التطبيق، إلى ظهور العديد من الهفوات والإشكالات.
3 - لم تشمل العقود على أي بنود في تطوير وإشراك الجهد الوطني في مسيرة العمل، والذي قد يؤدي الى تقويض هذا الجهد الذي حقق إنجازات كبيرة وواسعة في الصناعة النفطية العراقية.
4 - السقف الإجمالي المحدد لإنتاج حقول جولات التراخيص والبالغ 12 مليون برميل يومياً امر يفتقر إلى الواقعية والعلمية والشفافية في جميع الجوانب، سواء على الصعيد الوطني في شكل حجوم العمل وتوفر المستلزمات اللوجستية البعيدة كل البعد عن المنال، أو على الصعيد الخارجي في أسواق النفط العالمية البعيدة كل البعد عن استيعاب وتصريف مثل هكذا معدلات؛ الشيء الذي سيؤدي إن تحققت المعدلات من الإنتاج إلى خلق اضطرابات وتوتر في السوق العالمية وانخفاض حاد في أسعار النفط، ناهيكم عن النتائج شبه الكارثية على العراق في الوفاء بالتزاماته في تسويق تلك الكميات.
5 - عناصر العجالة وغياب المعايير العلمية والشفافية أدى الى ظهور حالة من التخبط وعدم التوازن في تقييم واعتماد الشركات المشاركة؛ فهناك شركات نفطية عملاقة ومعها شركات صغيرة لا تمتلك الخبرة الكافية في تطوير الحقول حتى في بلدها الأصلي.
6 - غياب جوانب أساسية وجوهرية تتعلق بمسؤولية مساهمة تلك الشركات فيما يجري في أسواق النفط العالمية وتذبذب الأسعار والعرض والطلب؛ الأمر الذي يحتم على العراق تصريف وتسويق كل الكميات المنتجة من تلك الشركات.
7 - غياب التزام الشركات في المواصفات التعاقدية والتسويقية للنفوط العراقية والتي اعتمدت منذ عقود في عقود تسويق النفط، وهذا يعني بالضرورة توفر العديد من جوانب الخسارات المادية للبلد، إضافة إلى عدم وجود وضوح في مجالات القياسات والسيطرة على الكميات المنتجة.
8 - الآليات والأساليب التي أعتمدت في إبرام هكذا حجوم عمل لصناعة معقدة ومتشابكة وعلمية بجوهرها وطبيعتها تقود إلى الاستنتاج الواضح بأن هناك خللاً وعدم توازن في طرفي المعادلة بين وزارة النفط من جهة والشركات من جهة أخرى. ففي الطرف الثاني توافرت كل عوامل الخبرة المتراكمة على مدى عقود في الإدارة والتكنولوجيا وغيرها، وفي كل المفاصل والتوجهات، يقابلها حالة من التصحر أصاب وزارة النفط نتيجة الظروف التي مر بها البلد.
9 - عامل العجالة والتسارع أدى إلى غياب تضمين تلك العقود لجوانب وأبواب أساسية وغاية في الأهمية في بناء القطاع، مثل: استثمار الغاز ومشاريع حقن الماء ومرافق الخزن والتصدير وغيرها.
10 - استبعاد متطلبات أساسية ومهمة جداً تتوافق ومسار نجاح العملية برمتها، مثل بناء مجمعات سكنية ورياض ومدارس ومنظومات ماء وكهرباء وغيرها.
11 - لم تتطرق العقود إلى أبواب مهمة في اعتماد المقاييس والمعايير العلمية والعملية في الأداء الفني والإداري والكفوء مستندًا الى طبيعة العمل في العراق.
هذا، وهناك العديد من الجوانب المهمة والأساسية والتي لا يتوفر المجال للخوض فيها.
ومهما يكن فما حدث حدث! وسارت عجلة جولات التراخيص بخطوات متسارعة يسودها الاضطراب والتخبط في مفاصل عديدة، وتنامت خلالها ظاهرة الفساد وتدني الأداء والتطور المنشود من جانب الكادر الوطني، مع ترك إدارة عجلة العمل - وبنسب عالية - بيد الشركات خلال الحقب الأولى من عمل الشركات وهو ما منحها مردودات مالية جيدة. ومن المفيد هنا التذكير أن الحسابات الاولية تشير بان إجمالي المصروف على جولات التراخيص قد يوازي بشكل أو بآخر تحقيق معدل بحدود (7) ملايين برميل يوميا! في حين أن المعدل الحالي (5) ملايين برميل يومياً.
بعد سنوات خلت من عمل تلك الشركات بدأت تأخذ منحى آخر مختلفاً من خلال إدخال تغييرات جوهرية في العقود والتي ستلحق صفحات أخرى من الغبن والضرر على الجانب العراقي، وقد انسحبت بعض من الشركات ومنها شركة شل من حقل مجنون والذي انيط العمل فيه الى الجهد الوطني، وكانت تجربة اقترنت بالكثير من التعقيدات والإشكالات، لكنها في نهاية الأمر اخذت المسار الصحيح. وفي الظاهر فان هذا الطرح يتبنى اتجاهين مختلفين ومتقاطعين لهدف واحد؛ الأول يشير الى وجود تحفظات على العديد من مفاصل جولات التراخيص، في حين الاتجاه الثاني يبرز الإيجابيات في استمرارية عمل الشركات. والحقيقة الناصعة أن مثل هكذا استنتاجات وتوجهات نابعة من الحفاظ على المصلحة الوطنية والتي تعلو على كل المصالح الأخرى. وبتبسيط الأمور لابد من الاستناد على واقع المستجدات التي أفرزتها تلك الجولات، وأبرزها خلق ظروف وأساليب وبيئة عمل جديدة على قطاع النفط. وفي المحصلة تجعل طرف الشركات العاملة هو ركيزة العمل الاساسية، وعليه فان هاجس القلق أو حتى الخوف من أن الانسحاب الفوري من العمل سيؤدي بشكل أو بآخر الى خلق فراغ في مفاصل كثيرة وهفوات واضطرابات في بيئة العمل قد تسبب في تراجع الخطط والبرامج.
على ضوء ما جاء في أعلاه، وتبعاً لما نتج من المستجدات الاخيرة في طلب عدد من الشركات بالانسحاب وبيع حصصها، فإني على قناعة تامة وراسخة بأنها فرصة ذهبية وهدية من السماء الى وزارة النفط للتعامل مع الموضوع بمهنية وشفافية عالية ووضع برامج ضمن خطة ستراتيجية وخارطة طريق بمراحل خمس سنوات لنصل خلالها الى مشاركة شركات النفط الوطنية بنسب لا تقل عن 40 % لكل عقود جولات التراخيص وضمن الأطر الآتية:
أولاً: إعادة النظر في نصوص البند القاضي ضحية قرار الانسحاب خلال فترة (90) يوماً وعلى الشركات النفطية العالمية أن تدرك أن تلك العقود ليست مرحلية أو محدودة حسب مصالحهم، بل أن هناك مصالح عليا للعراق كذلك.
ثانياً: يكون الاتفاق بين الطرفين مقروناً بشروط إلزامية واضحة، أبرزها التزام الشركة صاحبة طلب الانسحاب بتقديم خطط وبرامج العمل لفترة خمس سنوات قادمة، وتشمل كل مراحل التطور والجوانب الفنية والإدارية بحيث تضمن أن عملية الانسحاب سوف لا تؤثر بشكل أو بآخر على إحداث انحراف أو حيد في خطط التطوير.
ثالثاً: تشمل كل حالة انسحاب أو بيع حصص دخولَ شركة نفط عراقية بنسب لا تقل عن 30 % في الحصص الجديدة، ويكون هذا الشرط ملزمًا وإن استوجب الأمر فعلى الحكومة المركزية دفع المستحقات المالية.
رابعاً: إلزام شركات التراخيص بتقديم كشوفات دورية عن تحقيق بنود تأهيل ورفع أداء الكوادر الوطنية في المجالات الفنية والإدارية كافة.
خامساً: ضرورة إلزام الشركة صاحبة طلب الانسحاب تقديم مقترحات وبدائل لإدارة العمل وطنيًا أو مشتركاً بهدف تجنّب ظهور اختناق في مسار العملية الإنتاجية.
سادساً: ضرورة تفعيل وتطبيق أبواب التدريب ورفع الأداء وتطوير الكوادر الوطنية، وكذلك تأهيل وتطوير البنى التحتية التشغيلية والخدمية والإدارية في الشركات ومركز الوزارة.
سابعاً: إعادة هيكلية دائرة العقود والتراخيص وضمان توسيع وتنشيط موضوع الإدارة المكمنيّة ضمن الدائرة المذكورة.
*
اضافة التعليق