بغداد - العراق اليوم:
عبد الأمَير كاصد
خبير في شؤون الطيران
الْيَوْمَ سنكشف واحدة من أكبر قضايا الفساد في الخطوط الجوية العراقية، وبطلها هذه المرة عبد الحسين عبطان وزير النقل بالوكالة سابقا.
بعد استقالة باقر جبر صولاغ في منتصف عام ٢٠١٦، وفِي فورة تغيير الوزراء واستبدالهم بوزراء تكنوقراط، لم يكن للمجلس الأعلى برئاسة السيد عمار الحكيم، من الوزراء الجدد، وتحديداً من أهالي البصرة (حيث اشترطت كتلة دولة القانون آنذاك ان يكون وزير النقل من البصرة)، وهكذا جاء عبد الحسين عبطان وزيرا للنقل بالوكالة، وهي أيضا رغبةً رئاسة الوزراء، من أجل إكمال نصاب الحكومة لغرض استمرار عملها، وعدم تعطيل اجتماعاتها الأسبوعية.
دخل عبطان بقوة الى الخطوط الجوية العراقية، مع شريكه التجاري عقيل الربيعي صاحب شركة "الوطنية للطيران" على الرغم من ان شركته لا تملك "برغي" طائرة!! وبسرعة البرق بدأ عبطان إجراء تنقلات وزارية طالت كل من وقف في طريقه لنهب الخطوط الجوية العراقية، فقام بنقل أكثر من ستين موظفا بأقل من أسبوعين، واغلبهم بدون درجة وظيفية، بل وبدون تخصيص مالي أيضا، وقد قام عقيل الربيعي شخصيا باختيار اسماء الموظفين الذين تم نقلهم.
بعد ذلك بدأ الضغط على الخطوط الجوية بقوة، من أجل توقيع عقد مع شركة (أطلس جت) التركية دون غيرها، لان الخطوط العراقية تعاني من مشكلة عدم استيفائها لمتطلبات مشغل البلد الثالث (TCO). وبعد ان انتبه عبطان الى وجود خبراء أسبان، وبرواتب عالية تصل سنوياً الى ٢٥٠ الف دولار لكل واحد منهم (بضمنها الإسكان والاطعام وتذاكر السفر)، وبعد أن تأكد عبطان من ان وجود هؤلاء الخبراء (وهم ليسوا بخبراء) سيطيل أمد المنع الأوربي، وبوجود مدير عام للخطوط، لا يملك معرفة بشؤون الطيران، ولا يفهم الف باء هذا القطاع الواسع، قام عبطان بتثبيت الخبراء، وهو يعلم تماما ان هؤلاء لم ينجزوا، ولن ينجزوا شيئا في صالح رفع المنع الأوربي، (وهو المطلوب) لكي يستطيع هو وشريكه عقيل الربيعي ترتيب الأمور لعقد ذهبي، فأوعز للخطوط الجوية بإيجار ثلاث طائرات من طراز A320 إلى الشركة التركية ( أطلس جت)، خارج السياقات المعتادة، وطلب من مجلس إدارة الخطوط التوقيع عليه خلال ٧٢ ساعة.
وللأمانة فان عددا من أعضاء مجلس الإدارة حاول التهرب من التوقيع، لكن عبطان هدد الجميع بما فيهم المدير العام اسامة الصدر، وسط ذهول الموظفين بسبب جرأة الوزير، و تجاوزه لما لا يقل عن عرضين آخرين من شركات أوروبية أخرى، من بينها عرض من شركة AirExplore الذي لا يتجاوز الـ ٧٠٠ دولار لساعة الطيران الواحدة ، بضمنها اعادة تسجيل طواقم العراقية واستخدامهم في التشغيل، وأصر عبطان، وبدفع من شريكه عقيل الربيعي (وهو ممثل شركة أطلس جت في العراق)، من توقيع عقد أطلس بسعر بلغ ١١٠٠ دولار لساعة الطيران الواحدة، وبذلك حقق ربحا قدره ٥٠٠ دولار في الساعة الواحدة، وإذا علمنا ان الطائرات الثلاث، تعمل بما لا يقل عن ٣٠٠ ساعة شهريا، فهذا يعني ان هناك ٤٥٠ الف دولار عمولة شهرية لعقيل الربيعي وشريكه عبد الحسين عبطان، في واحدة من أوضح صفقات الفساد وأبسطها فهماً على الإطلاق.
في حين أن الشركتين الأوربيتين قدمتا عرضيين رسميين الى الخطوط الجوية العراقية، الا ان اسامة الصدر المدير العام للخطوط آنذاك، اخفى هذين العرضين بطلب من عبطان، وأهملهما، لكي يحصل الوزير وصاحبه على الكعكة مناصفة بينهما.
بعدها الحق عبطان الخطوط الجوية العراقية، بعقد آخر مع شركة (أطلس جت) لصيانة الطائرات المسماة ATS، وايضا بسعر مرتفع قياسا بأسعار السوق.
ان الغرض من التعاقد مع (اطلس جت) هو تشغيل طائرات العراقية نفسها الى أوربا ـ بدلا من إيجار طائرات بالكامل، وتحديدا لتجاوز موضوع مشغل البلد الثالث، وما يعرف اختصارا بال TCO، ولكن ما حدث عكس ذلك، حيث تم تسجيل ثلاث طائرات ولم يتم استخدام الطواقم العراقية، أو فرضها على المشغل التركي للأسف، وهو أمر مقصود، وبذلك اتاح العقد فرصة للأتراك، تتمثل بفرص عمل للطيارين والطواقم التركية، فيما تم إهمال الطيارين العراقيين بشكل كامل، على الرغم من أن الخطوط الجوية العراقية تمتلك مجموعة مؤهلة من الطيارين، ومساعدي الطيارين ـ حيث يمكن بسهولة فرضهم على المشغل التركي اطلس جت، فيما لو اخذت مصلحة الخطوط العراقية بنظر الاعتبار في هذا العقد.
وازاء ذلك فان طياري هذا النوع من الطائرات العراقية مهددون الأن بفقدان اجازاتهم كطيارين لهذا النوع، اذ تنص القوانين على ان الطيار يفقد اجازة طيرانه لنوع الطائرة المختص عليها بعد مرور 6 بدون طيران!
هذا ما يحدث الان، بل والاسوأ أن أدارة الخطوط العراقية قامت بخطوة لا تتفق ومصالح الشركة - عبر منح هؤلاء الطيارين تدريبا مدفوع الثمن على طائرات البوينغ- وهذا يعني ان الخطوط الجوية العراقية خسرت مرتين : مرة عندما فرطت بطياري هذا النوع من الطائرات، ومرة عندما صرفت مبالغ جديدة لتدريبهم على نوع آخر، و ستجد نفسها مستقبلا في وضع لديها فيه طائرات بدون طيارين، لتبقى الحاجة قائمة الى الأبد للطيارين الأتراك، لكي يستمر عبطان وشريكه عقيل الجبوري بحلب بقرة الخطوط حتى القطرة الأخيرة من الحليب فيها، ضاربين بعرض الحائط المصلحة العليا للشركة، وللبلاد.
وبطبيعة الحال فأن العقد مع اطلس جت تجارياً مربح جدا لعبطان ولشريكه الربيعي، ومن خلفهما الآفة الإدارية في المجلس الأعلى احمد الفتلاوي - الذي بدأ سلسلة تعيينات خارج الضوابط - إذ قام بتعيين أحد موظفي مكتبه حسين عبد الله (وهو شرطي سابق لم تتجاوز خدمته الثمانية أشهر) معاوناً للمدير التجاري، وهذا المنصب يستوجب خبرة عالية في مجال الطيران التجاري، وقد جاء تعيينه أساساً من أجل ترتيب الأمور، وتنسيقها، وطيعاً فإن كل ذلك يتم بتوجيه مباشر من الفتلاوي، وأيضاً لكي يرهب الموظفين، ويخيف المعترضين، وهكذا أصبحت الخطوط الجوية خلال اشهر واحد مزرعة يملكها عبطان وعقيل والفتلاوي ومن يقف خلفهم .
ولم نسمع أحداً قال: أين مصلحة الخطوط الجوية العراقية في هذا العقد السيء الصيت، أقصد عقدها مع (أطلس جت)؟
فلا النزاهة، ولا المفتش العام، ولا لجنة الخدمات في البرلمان، ولا أي مسؤول في الدولة وجه مثل هذا السؤال لهذه العصابة!! أليس هذا فساداً واضحاً.. فلماذا لا يسأل الفاسدون عنه.. أين دور لجنة النزاهة البرلمانية في موضوع كهذا؟ وأين دور الجهات الرقابية المتمثلة بمكتب المفتش العام في وزارة النقل؟ ولماذا هذا السكوت الغريب من كل هذه الجهات الرقابية، على مثل هذا العقد، الذي تم توقيعه خارج الضوابط بشكل واضح وصريح؟
اننا نطالب لجنة الخدمات البرلمانية بالاطلاع على عقد (أطلس جت) وعرضه على المختصين، واستحصال آراء مهنية حوله، لسبب بسيط هو أن ما تم توقيعه (قد دبر بليل مظلم، وليس تحت الشمس) لذلك فإن هناك جريمة تدفع الفاسدين لحجب هذا العقد وعدم اعلانه، ومن حق منتسبي الخطوط الجوية العراقية ان يفهموا ماذا حدث.
نحن نطالب باستدعاء المدير العام السابق اسامة الصدر، للتحقيق معه، كما نطالب بالتحقيق مع أعضاء مجلس الإدارة للخطوط الجوية العراقية، وبشكل منفرد، وأن تتم مساءلتهم عن كيفية توقيع عقد بهذا الحجم، في اقل من 72 ساعة، وبأوامر من؟
كما يجب محاسبة عبطان الوزير بالوكالة اذا ما ثبت انه ضغط على مجلس أدارة الخطوط العراقية للتوقيع خلال مدة محددة.
أن ما توفر لدينا من معلومات يثبت ان الوزير بالوكالة عبطان قد ضغط وقتها على أعضاء مجلس الإدارة من أجل التوقيع، بل وهدد أسامة الصدر الذي كان متشبثا بكرسي أدارة الخطوط حينها بتمشية الموضوع، أو نقله الى خارج الخطوط، ويقال إن اسامة الصدر قام بنقل تهديدات السيد الوزير لمجلس الإدارة.
والسؤال الذي يتبادر الى ذهننا: كيف يمكن للوزير البديل كاظم فنجان ان يسكت على تدمير الخطوط بهذه الصورة الشنيعة؟ لكن السؤال يصبح بلا معنى حين نعلم أن الوزير فنجان (مسيَّر) وليس مخيراً، فالرجل يتم تسييره من قبل " والي نعمته " أحمد الفتلاوي، وهنا لا نملك غير التوجه نحو السيد رئيس الوزراء، الذي بدأ يكتشف فساد عبطان، ويعرف كذلك عقيل الربيعي بالاسم، مثلما يعرف سطوة أحمد الفتلاوي ( صاحب أمر التعيينات خارج الضوابط )، ونطالبه بالتدخل المباشر لفك ارتباط الخطوط الجوية العراقية بوزارة النقل، والحاقها بهيئة المستشارين في الأمانة العامة، او اعتبارها هيئة ترتبط مباشرة برئاسة الوزراء، كي تتوقف تدخلات الوزير في أدارة الشركة، وينتهي تلاعب عبطان، ومن يقف خلفه في المجلس الأعلى، بمقدرات الشركة الجوية العراقية، التي تعتبر أكثر المؤسسات التخصصية التي يستوجب بناؤها بعيدا عن ركائز الجهل والتخلف ، وبعيداً عن وزراء الصدفة الذين جاءت بهم المحاصصة المقيتة، بحيث باتوا ينظرون للوزارات وكأنها مزارعهم الخاصة، حتى اصبحت الخطوط الجوية كمثال على ذلك دائرة متخلفة يقودها حفنة من غير المهنيين الذين لا يعرفون أبسط معارف الطيران، بعد أن أبعدوا الموظف الكفوء خوفا من الريح العاتية الهمجية التي ضربت اقسام الشركة بكل وضوح.
ونود هنا ان نوجه رسالة بسيطة للسيد رئيس الوزراء مفادها:
لقد عرفناك رجلا مهنيا ناجحا ـحتى قبل وصولك للعراق في العام 2003 ولكن ما نراه في هذه الشركة من مخالفات وتجاوزات لا يمكن السكوت عليها، والقفز فوق المهنية والتخصص، ولا نظنك تقبل بذلك تحت اي ظرف.
لم تبنِ الدول شركات طيرانها الناجحة بأحزاب سياسية ابداً، ولم يكن المشروع السياسي لأي حزب طريقا لبناء شركة طيران مرموقة يشار لها بالبنان على الأطلاق.
فهذه المؤسسة (الخطوط الجوية العراقية) يجب ان تخضع للمعايير الدولية في ادق تفاصيل طرق أدارتها، والتخطيط لمستقبلها التشغيلي، وان يقودها استشاريون مهنيون، وأناس مؤهلون يعملون في هذا المجال حصراً، ولا يجب ان تخضع ابدا "لخبير" كل خبرته أنه كان يملك دكاناً لبيع الخرز في النجف، او تخضع لمحامي كان متخصصاً في القضايا المعيبة والمخجلة اجتماعياً وقانونياً، او كان حارساً شخصياً لأحدى الشخصيات السياسية، ليتحول فجأة من (بودي كارد) الى وزير!
إن هذا لا يجوز مطلقاً في بلد ديمقراطي أعطى نهراً من الدماء من أجل نيل حقوقه، ومن أجل أن يلحق بقطار الدول المتقدمة، وإذا كان ولا بد لهذا (البودي كارد) أن يكافأ، فليكافئ بتعيينه في إدارات البلدية، أو الملاعب، او المنظمات الجماهيرية، وليس في شركة طيران تحتاج لمنظومة من المواصفات والتخصصات والمعارف المهنية والفنية المتقدمة، وإلاَّ فسنصبح (مضحكة)!