الوزير محمد صاحب الدراجي يكشف الدور التخريبي للدولة الخفية في عقود استثمار شركات الصناعة

الحلقة الثامنة - الجزء الثاني 

الدولة الخفية وعقد استثمار اسمنت كربلاء

في اليوم الأول لتسلمي الوزارة كلفني السيد رئيس الوزراء بمتابعة وحل إشكالية لإحدى الشركات العالمية الكبرى، التي دخلت باستثمار في مصنع إسمنت بكربلاء حيث أنها قررت إن تنسحب وتغادر العراق بسبب تعريضها لخسائر متعمده من اجل إن لاتجرأ اي شركة محترمة في العمل والاستثمار داخل العراق، ولاحظت من هذه التجربة أمرين يقوم بهما إتباع الدولة الخفية، الأول إن صناعة السمنت في العراق يجب إن تتعثر لان استيراد السمنت فيه مردود ربحي كبير للتجار والدول المصدرة،  وصناعته محليا فيه فائدة اقتصادية للبلد والثاني ان العقود التي تُبرٓم مع الشركات العالمية المحترمة ( التي لا تدفع عمولات) تكون مجحفة بحق الشركات، وغير قابلة للاستمرار وخصوصا التي أبرمت بصورة مركزية من مجلس الوزراء بسبب المستشارين الذين يقولون كلمة حق اسمها المصلحة الوطنية أنياً،  ويُراد بها باطل لان على المدى البعيد نتائجها سلبية، على اقتصاد البلد ومنها هذا العقد وبعض العقود الأخرى، خصوصا في الصناعات الستراتيجية، كالإسمنت والحديد والبتروكيمياويات .

بعد مفاوضات قاسية ليس مع الشركة وانما مع اتباع الدولة الخفية تم حل الأشكال ورجعت الشركة تعمل ومعها الآلاف من العمال والموظفين العراقيين ،وتم تعميم نموذج الحل الفني التعاقدي على باقي المعامل فكانت النتيجة ارتفاع في إنتاج الإسمنت العراقي مما حدا بِنَا إلى ان نستحصل قرار تاريخي بمنع استيراد الإسمنت والاكتفاء بالمنتوج المحلي لانه يسد الحاجة الفعلية في البلد، وفعلا من تاريخ ١/١/٢٠١٦ توقف استيراد الإسمنت ( مع العلم انه في بعض الأحيان تم الالتفاف على القرار وتم ادخال إسمنت تحت مسميات الاستثمار او التبرعات او غيرها )، وعند اتخاذ القرار انفتحت أبوب جهنم على وزارة الصناعة وقيادتها حينها إلى درجة ان وزراء بعض الدول قاموا بزيارة خاصة، للعراق للتأثير على هذا القرار لكن صلابة موقفنا أجهضت محاولات الكيان الموازي لضرب القرار إلى درجة ان احد المتنفذين من إتباع الدولة الخفية أرسل رسالة شخصية لي مفادها إني سأدفع الثمن أجلا ام عاجلا.

ونفس الموضوع انطبق على موضوع الحديد والصلب فان الشركة المحال لها استثمار المعمل عام ٢٠٠٨، لم تحرز إي تقدم خلال سبع سنوات لان لا حاجه لها بالاستثمار، أو تأهيل المصنع بسبب العائدات الربحية الفاحشة جراء استيراد الحديد والربح المهول والتخريب المتعمد نتيجة تهريب سكراب الحديد إلى خارج البلد حيث إني وجدت انه هناك مزادات لبيع السكراب المتجمع لدى الوزارة مع العلم انه لا توجد معامل خاصة تشتري السكراب فهذا معناه إن السكراب الذي يعتبر ثروة وطنية،  يتم تهريبه الى خارج البلد فقمنا بالتعاون مع القيادة العامة للقوات المسلحة بإيقاف تنقل السكراب لكي لا يتم تهريبه بل يتم تجميعه في المحافظات ثم تقطيعه وكبسه بطريقه فنيه واستخدامه كمخزون ستراتيجي  للبلد . لكن هذا القرار أقام القيامة ولم يقعدها حيث ان سياسيين وقيادات أمنية مشتركون بهذا الفعل الشنيع قاموا بحملة ضغط  مضادة لإجبارنا للتراجع عن هذا القرار لكن بفضل من الله تم الصمود الى اخر يوم في الوزارة ولم نتنازل عن هذا الإجراء الاقتصادي الوطني

ومن الحالات الجديرة بالذكر ما حصل في معمل الكلور في محافظة بابل ، حيث ان الوزارة قامت منذ العام ٢٠٠٩ بإنشاء خط إنتاجي لإنشاء مادة الكلور التي تدخل في عملية تعقيم مياه الشرب ( الذي يتم استيراده بكميات كبيرة، من دول الجوار وبسعر يصل الى مليون دينار للطن الواحد) بينما يمكن عند تشغيل هذا الخط انتاج الكلور محليا بسعر لا يتجاوز ٧٠٠ الف دينار عراقي، ويشغل أيدي عامله عراقية وقد كانت نسبة انجاز المشروع تصل الى ٩٠٪ لكنه متوقف لأسباب تافهة، ومقصودة، فقمنا بمعالجة التلكؤ وإعادة تشغيل المشروع فتم تحريك العمال لإثارة المشاكل والتدخل في عمل الإدارة وبدعم من جهات سياسيه لكننا تجاوزنا الأمر دفعنا باتجاه انجاز المشروع .

 في ليلة الافتتاح كان من المفروض ان تمتلئ الأحواض الخاصة بالترسيب من اجل ان يبدأ الإنتاج في اليوم التالي لكني استلمت مكالمة تلفونية من المدير العام يبلغني ان هناك عمل تخريبي يتمثل في رمي صناديق من مسحوق غسيل الملابس في أحواض الترسيب!! لأجل تخريب المكائن وتم حل الأشكال وبدأ التشغيل ومن ثم قاموا بتخريب بعض الأجزاء في المعمل والتي يجب ان تستورد من الولايات المتحدة والتي تقول ان هذه الأجزاء ذات استخدام مزدوج .

تركت الوزارة ولم تُحل هذه القضية مما يسجل نجاح للدولة الخفية.

اما ما كان من موضوع الأسمدة فلهُ قصة أخرى، حيث كان العراق يستورد سماد اليوريا طيلة الثلاث عشرة سنة الماضية وبأسعار تتراوح بين ال ٥٨٠ دولار الى ٦٢٠ دولار للطن الواحد مع العلم ان  الشركة العامة للأسمدة تمتلك احد أفضل المعامل في البصرة ومع توفر الغاز اللازم لإنتاج اليوريا بالإمكان إنتاج اكثر من  ٣٦٠الف طن سنويا .

لم أكن اعرف سبب عدم الإنتاج لحين زيارتي للمعمل الذي تم تحديثه بواسطة القرض الياباني حينها، فاكتشفت ان الأسباب تتعلق بتوفير الغاز وتزويد المعمل بالكهرباء، فعملنا في مقر الوزارة على حل هذه الإشكالات ، وفعلا بدأنا التشغيل وكانت المفاجأة ان كلفة الطن الواحد لا تتجاوز الـ ٣٠٠ دولار اي اقل من نصف سعر المستورد .

 للأسف تم رفض الشراء ابتداءاً  من قبل الجهة الحكومية المختصة في وزارة الزراعة بحجة ان المنتج غير مطابق للمواصفات، وكنا نستغرب ان النموذج الذي يتم فحصه في فرع دائرة التقييس والسيطرة النوعية في البصرة يكون ناجحا لكن عندما يعاد فحصه في نفس الدائرة في فرعها ببغداد يكون فاشلا!!!!  خضنا معارك لإثبات نجاح المنتج وأدخلنا جهة فاحصة مستقلة،  أثبتت ان منتج اليوريا العراقي من أفضل المنتوجات المماثلة في المنطقة وتم بالفعل إلزام الجهات كافة بشراء المنتج والتقليل من الاستيراد فبدأت بعدها حملات الترغيب والترهيب من قبل بعض الجهات لضخ منتج من خارج البلاد وتغليفه على انه من انتاج عراقي لغرض بيعه لكننا رفضنا ذلك بشدة مما أدى الى ان ندفع شخصيا ثمن ذلك الموقف لاحقا.

وإذ نبقى في البصرة حيث كان هناك مشروع لاستثمار الغاز في مجمع صناعي للبتروكيمياويات بالشراكة مع شركة  شل العالمية،  تم توقيع مذكره التفاهم قبل ان أتولى مهامي كوزير للصناعة يقضي بان تستثمر الشركة ١١ مليار دولار لإنشاء مجمع بتروكيمياويات يحقق فرص عمل ل ١٠ آلاف عامل في المنطقة ويستفيد من الغاز المصاحب، وهو مشروع ممتاز بكل المقاييس لكن للأسف وجدته متوقف .

حاولت اعادة الروح له فاكتشفت ان من أسباب توقفه هو تصرف لموظف بدرجة معاون مدير عام في وزارة النقل يرفض تسليم قطعة الأرض المخصصة للمشروع، وبالتنسيق مع موظفين صغار في الاستثمار تم تخصيص نفس القطعة وبتاريخ قديم لنشاط استثماري تافه وغير قابل للتنفيذ، ليكون ذلك عذرا لعدم تسليم الأرض ولإيقاف ذلك المشروع الحيوي وعلى الرغم من اننا رفعنا الموضوع الى اللجنة العليا للطاقة برئاسة رئيس الوزراء وتم استصدار قرار بذلك الى ان اتباع الدولة الخفية لم ينفذوا قرار الحكومة لحين انتهاء مهامي كوزير للصناعة .

ومن الامثلة الواضحة على نفوذ الدولة الخفية في ضرب الاقتصاد العراقي كان موضوع استخراج الفوسفات  وتحويله إلى اسمدة ومنتجات فوسفاتية اخرى من خلال إنشاء أربعة معامل في حوض الفرات ، حيث ان العراق يحتوي على ثاني اكبر احتياطي من الفوسفات بعد المغرب لكننا غير مستفيدين منه ولا يمكن تصديره بسبب منع ذلك بقرار للحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر والذي اتخذ صيغة قانون لا يمكن تغييره!!! على العموم تقدمت الشركة العالمية الكندية البريطانية شراكةً مع شركات محليه لهيئة  بمشروع استثماري لبناء أربع مصانع بقيمة ٦٠٠ مليون دولار  لإنتاج منتوجات وأسمدة فوسفاتية، ولكن دراسة الجدوى تتطلب ان يكون هناك توفر لماده الفوسفات الخام مما يتطلب التعاقد مع وزارة الصناعة من اجل ضمان شراء مادة الفوسفات الموجودة تحت الأرض بالسعر العالمي وبالكمية التي تكفي لتشغيل المعامل حين إنشاءها على ان تقوم الشركة بنفسها بعمليات الاستخراج .

 وهذا الاتفاق سيجلب منفعة اقتصادية متعددة حيث سيورد واردات مالية للدولة ويستقطب استثمار لبناء أربع مصانع تشغل أيدي عاملة تقدر بالآلاف كما ان المنتج النهائي يسمح بتصديره مما يجلب عوائد من العملة الصعبة للبلد.

 بناءا على طلب هيئة الاستثمار تم تهيئة مسودة عقد يتضمن ان تقوم وزاره الصناعة ببيع الكميات اللازمة من الفوسفات لتشغيل المعامل عند إنشائها وبالسعر العالمي حينها.

 يعتبر العقد ملغى  او غير فعال في حالة عدم بناء المعامل اي ان العقد نافذ عند انجاز المعامل.

 للأسف صدرت التوجيهات لإذناب الكيان العميق لإفشال المشروع فبدأت طلبات غير منطقيه او تعجيزية من قبل الهيئة العامة للمسح الجيولوجي منها ان القانون لايسمح بذلك! فقلنا لهم أعطونا الفقرة القانونية الممانعة لذلك فلم يستطيعوا ذلك ثم قالوا فليبنوا المصانع قبل ان نوقع لهم العقد وهذا غير منطقي لسببين الأول إن هيئة الاستثمار تطلب ان يضمنوا الفوسفات من المصدر قبل إعطائهم إجازة الاستثمار والثاني انه اذا بنوا المصانع ودفعوا تكلفتها بحدود ٦٠٠ مليون دولار ولأي سبب لن يتم إعطائهم الفوسفات فمعناه أنهم صرفوا مبلغ إنشاء المصانع دون فائدة لان المصنع لايعمل بدون فوسفات.

ولما أُسقِطٓت جميع الحجج امتنع المدراء عن التوقيع بدون اي سبب فانبرى أجد المستشارين وأخذ على عاتقه تلك المسؤولية فلم يستسلم اتباع الدولة العميقة فتحرك محافظ  الأنبار( الذي كان على علم بالموضوع بل ان رئيس استثمار الأنبار كان عضو في لجنة التفاوض ) وقدم كتب الى رئاسة الوزراء يقول فيها ان المحافظة لا علم لها بهذا المشروع وأنها غير موافقة!! وكل ذلك مصحوب بحملة تسقيطية واضحة من قبل بعض وسائل الإعلام لضرب هذا المشروع الحيوي ومازالت الأمور تراوح في مكانها على أمل ان يتم حل هذا الموضوع.

الأمثلة كثيرة في وزارة الصناعة لكنا نكتفي بهذا القدر لكي لا نحبط القارئ الكريم من خلال سرد مؤامرات الدولة الخفية على النظام العام في العراق ، ويكفي العراق حزنا انه لاينتج أطلاقة مسدس بسيط يحمي بها رجل الأمن نفسه والآخرين مع توفر كل لوازم الإنتاج ماعدا الإرادة كما ان الدولة الخفية بشتى الطرق تبعد اي شريف يحاول إعادة الهيبة للعراق عن طريق صناعته الحربية.

علق هنا