فالح حسون الدراجي
افتتاحية جريدة الحقيقة: عندما قرر الكاظمي الذهاب الى محافظة صلاح الدين، ليلتقي عوائل المغدورين في قرية (الفرحاتية) في قضاء بلد، ويحضر ايضاً مجالس العزاء المقامة على ارواحهم، قبل أن يذهب الى باريس، وربما يكون هنا قد تجاوز التوقيتات المثبتة للرحلة، سواء في مواعيد إقلاع الطائرة، أو في فقرات برنامج الزيارة المعًد سلفاً من قبل وزارتي الخارجية في فرنسا والعراق، وطبعاً، فإن الرجل لم يكن يفضل كسر البروتوكول الرئاسي، أو يحب اجواء قرية الفرحاتية المفجوعة والمظلمة، ويفضلها على أجواء باريس (عاصمة النور ) كما يصفها سارتر ! لكن -وهذا رأيي الشخصي- إن الكاظمي أراد أن يرسل بهذه الزيارة الطارئة، رسالتين مهمتين، إحداهما، قالها لعوائل الضحايا شخصياً : " إن حق المغدورين سيأتي عبر القانون، وأن التحقيقات قد بدأت، وسأتابعها بنفسي ". أما الرسالة الثانية وهي الأهم عندي، فقد أرسلها "مسجاً" الى من يفكر بالعودة الى مآسي الشحن والتعصب والصراع الطائفي، نصها "إن العودة الى الطائفية أمر مستحيل، بل هو أصعب من المستحيل". نعم، بهاتين الرسالتين عاد الكاظمي الى بغداد مسرعاً، ليستقل طائرته، ويصطحب وفده، مسابقاً الزمن في الوصول الى باريس حسب الوقت المحدد ! وبينما كان الكاظمي محلقاً فوق السحاب، وقد إسترخى بعض الشيء حتماً، وهدأت نفسه، ورمى برأسه قليلاً الى الوراء، ليحظى بإغفاءة هي أشبه بإغفاءات القيلولة العراقية عند عصاري الصيف .. لاسيما وإن أمامه برنامجاً طويلاً ومتعباً، يتطلب منه تركيزاً وراحة، ويقظة وإنتباهة ! فهل حصل الكاظمي على هذه الإغفاءة، ونام قليلاً في كبد السماء؟ ولكن، دعونا قبل كل شيء، نسأل : هل ينعس الكاظمي وهو في مثل هذه المناخات المشبعة بالأسى، وهل ستغفو عيناه، وهو الذي يحمل على كتفيه مسؤولية وطنية واخلاقية (وشرعية) ثقيلة، لا يمكن أن تحملها أكتاف رجل واحد حتى لو كان بحجم وقوة شمشون الجبار ؟ كيف ينام رجل مثل الكاظمي في مقعده بالطائرة، وهو رئيس دولة، تركها كسفينة تمخر عباب بحر هائج لا يعرف السكون، وتحاصرها الرياح المجنونة من كل الاتجاهات! كيف يغفو (الرئيس) وهو الذي كان قبل سويعات في قرية متشحة بالسواد، وحاضراً في مجالس العزاء المقامة على أرواح أبنائها، لاسيما وإن الكاظمي -كما يقول أصحابه- : يحمل قلباً ناعماً هشاً يتكسر كالزجاج حين يسمع طفلاً يبكي ! إذاً، كيف ينام وهو يدري أن سكين الذبح لم تزل حادة وشغالة على مختلف أعناق وصدور العراقيين؟ والسؤال الآخر، لا أعرف كيف ينام الرئيس وموعد تظاهرات 25 تشرين قريب، وقادم لا محالة، حيث لا أحد يحزر ماذا سيحصل في هذا اليوم الخطير، حتى لو كان نصف أعداد المتظاهرين من أنصاره؟ وكيف ينام الكاظمي، وهو يدرك أكثر من غيره أن خزينته خاوية، وموعد رواتب شهر تشرين قد دنا، بل أن الكثير من الموظفين لم يتسلم حتى هذه اللحظة رواتب شهر أيلول ! فماذا سيقول للناس، وقد وعدهم في أول أيام تسلمه الرئاسة، أن رواتب الموظفين والمتقاعدين خط أحمر ؟! كيف ينام (أبو هيا)، والعراقيون لا يلتزمون بالضوابط الصحية، ولا المحاذير الوقائية التي تفرضها وزارة الصحة على المواطنين للنجاة من فايروسات كورونا، خاصة وإن أعداد المصابين تتكاثر كل ساعة، بل وفي كل لحظة ؟ كيف ينام الرجل، وخياله يمضي به الى هواجس ثقيلة ومخاوف وأسئلة قاسية، من بينها : ماذا لو إنفلت (السلاح المنفلت) في غيابه - هذه المرة -، ومن سيطفئ النار لو إشتعلت في بغداد لا سمح الله، وهو الذي كان يطفئها بيديه كل مرة- على الرغم من أن الكاظمي قد أبقى في بغداد باللحظة الأخيرة مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، ولم يصطحبه مع الوفد، رغم وجود إسم الاعرجي في الأمر الديواني الخاص بالوفد المسافر - وأغلب الظن ان الكاظمي يعرف رجاحة عقل الاعرجي، وعلاقته الطيبة مع الجميع، بما في ذلك قادة الفصائل المسلحة -. إذاً، فإن الكاظمي لم ينم في الطائرة مثل بقية أعضاء الوفد المحلق معه حسب ظني، ويقيناً أن هذه الهواجس، وهذه المخاوف، لم تكن وحدها لتأخذ بتفكيره وتلابيب عقله، إنما ثمة أسئلة وموضوعات أخرى كانت تشغل عقل الكاظمي، وتغلق عليه منافذ النوم في تلك الأمسية (الطيرانية)، ولعل من بينها، البحثً في قرارة نفسه عن أسباب الأهمية التي منحتها له أكبر ثلاث عواصم أوربية، دون أن تمنحها لغيره، ففي الوقت الذي ستستقبله باريس وبرلين ولندن برحابة صدر، نجد إن نفس هذه العواصم أغلقت أبوابها بوجه كبار زعماء دول العالم، بما فيها الدول الغنية والقوية- بسبب جائحة كورونا -بينما تستقبل رئيس دولة (مفلسة)، وأوضاعها الأمنية مرتبكة، بل وسيئة، وكذلك أحوالها السياسية غير مستقرة، فضلاً عن بعدها جغرافياً عن هذه العواصم الثلاث؟ فلماذا تستقبل رئيس لا فائدة من زيارته، ولا تتمتع بلاده بأي إمتياز استثنائي يؤهلها لهذا التكريم؟ الجواب، من وجهة نظري، وقد لا يعرفه الكاظمي نفسه، هو أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ترسم لإستقطاب العراق عبر الكاظمي الميال بمزاجه نحو أوروبا اكثر من ميله لامريكا، في حالة هزيمة ترامب، خاصة وإن الكثير من المتابعين يعرفون ان جو بايدن، والديمقراطيين عموماً، ليسوا من النوع الذي يرغب بالتشبث في العراق، بل إنهم كانوا ضد المجيء أصلاً الى بغداد في 9 نيسان 2003, وعلى هذا الأساس، فإنهم يراهنون على الكاظمي لأن يلعب دوراً - في المستقبل القريب - لإقامة علاقة اقتصادية وسياسية وثقافية بين العراق واوربا، لاسيما وهم يدركون ان العراق سيتعافى إقتصادياً قريباً حتماً، كما إنهم واثقون من أن شعبية الكاظمي نتصاعد في العراق، وقد يفوز في الإنتخابات القادمة، ويعود لرئاسة الحكومة العراقية مرة أخرى، فماذا ستخسر ميركل، أو بوريس جونسون، أو ماكرون، لو إستقبلوه في عواصمهم، وحتى لو بالغوا في استقباله، فالرجل ينبئ بمستقبل واعد!