الكاظمي يرشح عبد الحسين الهنداوي مستشاراً لشؤون الإنتخابات، فهل كان القرار صحيحاً، ومن هو الهنداوي، وما هي مؤهلاته؟

بغداد- العراق اليوم:

لم يكن ذلك الطفل النحيل المنحدر من عائلة عراقية معدومة في منطقة الهندية، سوى نموذج لاطفال العراق في فترة الخمسينيات من القرن الماضي الذين عانوا من شظف العيش وسط احداث جسام تزاحمت في ذاكراتهم لتصبح بعد حين دافعا للبحث عن الحرية من سطوة الاستبداد. فما الذي يفعله الهنداوي المترجم والكاتب ومؤلف الكتب حول الضحك في المنظور الفلسفي، والفلسفة الهيجلية والاستبداد الشرقي في المفوضية العليا للانتخابات العراقية؟ انه ببساطة يرأسها على امل اخراج اول انتخابات حرة في تاريخ العراق المعاصر، مدللا بذلك على ان الافكار العظيمة في الكتب تحتاج الى حركة دؤبة على الارض لتحقيقها. وعبد الحسين الهنداوي، من مواليد 1947، نموذج لعشرات الالاف من المثقفين العراقيين الذين ينتمون لاسر متواضعة الحال في عراق الخمسينيات والستينيات. فهو كغيره اضطر للعمل صغيرا لمساعدة اسرته. وفي الجامعة انضم للحزب الشيوعي، واهتم بالفنون والادب والترجمة. ودخل السجن في بغداد ايام البعث. بعدها قرر ان يترك بغداد الى كردستان التى توجه منها الى سورية سيرا الى الاقدام. ومن سورية الى لبنان الى اوروبا حيث عمل كل شيء بدءا من حمال الى عامل لقطف الذرة والعنب والتفاح، وذلك خلال دراسته في فرنسا للدكتوراه في الفلسفة. ومن الصحافة توجه الهنداوي للعمل في منظمة العفو الدولية «الامنستي»، كما كان من المشرفين على الانتخابات وحقوق الانسان في هايتي. انها سيرة تتشابه مع الاف السير لعراقيين خبروا كل شيء في الحياة الا الحرية في بلدهم. ولان هذا هو ربما الشيء الوحيد الذي لم يختبره الهنداوي كان حتميا ان يعود للعراق للمساعدة في اجراء الانتخابات. واجمالا كانت طفولة الهنداوي، هو الاخ الكبير لاربعة اخرين، قصيرة. فقد اضطر بعدما انتقل الي بغداد والعيش في منطقة «ابو سيفين» الى بدء اول عمل له في المطابع لينفق على اهله الذين يحتاجون قوت يومهم. وكما عمل في مطبعة «الهلال» لصاحبها هارون شاشة وهو عراقي يهودي معروف آنذاك. عمل ايضا في مطبعة «الزهراء». ولاحقا انتقل للعمل في مطبعة «ثنيان» في منطقة الباب المعظم ببغداد. غير انه لم يترك دراسته في المدارس المسائية، ففي ثانوية الاخاء المسائية حصل على التعليم الذي كان يتطلع اليه.

وفي كلية الاداب بقسم الفلسفة، تبلورت افكاره السياسية والفكرية ليكتب اول مقال له عن الفيلسوف العربي ابن الفارض، وكما كتب بحثا عن «الضحك في المنظور الفلسفي» الذي تسلم عنه عشرة دنانير عراقية. ايضا نشر مقالات حول سارتر والحرية كتراجيديا. وعندما انضم عبد الحسين الى الحزب الشيوعي العراقي انتمى للصف المنشق منه وربما هذا جزء من شخصيته. وهنا بدأ اكتشاف تكلفة العمل السياسي المعارض، فقد تعرض للاعتقال في يوينو (حزيران) 1971. وفي السجن تعرض للتعذيب من الصباح حتى المساء وكان التعذيب بأشراف مدير امن بغداد الذي كان يبحث عن باقي اعضاء التنظيم الشيوعي. وعندما افرج عن الهنداوي واوصلوه الى البيت بسيارة «فولكس واجن» بيضاء كانت آخر سيارة يراها في العراق، اذ قرر بعد عودته للبيت ان يهرب. وكانت كردستان العراق هي المحطة الاولى في منطقة (ناو كليكان) و(جوزان) وهي قريبة من (كلالة) ليبقى فيها اربع سنوات. ويبدو ان التفاؤل برغم كل الصعوبات الموضوعية هو من خصائص شخصية الهنداوي. فالبرغم من عنف حكم البعث، اعتقد الهنداوي ان التصدي له هو الطريقة للخلاص. والان بالرغم من الاجواء غير الاعتيادية التي تجرى فيها الانتخابات العراقية يؤمن الهنداوي انها الطريقة الوحيدة لمساعدة العراق في التخلص من الوضع المأساوي الحالي. وهو يعتقد ان الانتخابات سيكون لها وقع عالمي خاص، وستفاجئ العراقيين عندما يكتشفون للمرة الاولى قدرتهم الى تغيير مصيرهم. وباختصار يقول الهنداوي ان هذه الانتخابات كبيرة وهامة في كل شيء بغض النظر عن كل التحفظات. وفي كردستان، منفاه الاول، عاش عبد الحسين في الجبال تحت قساوة البرد، وهناك اصدر جريدة «طريق الشعب»، وخلال ذلك بدأت الحرب في كردستان عام 1974، فتركها مضطرا في رحلة عذاب جديدة، اذ سار على الاقدام الى سورية بعد ان تعلم اللغة الكردية، وكان له من الاصدقاء الكرد من المثقفين والسياسيين والفنانين الكثير حتى انه حفظ الكثير من الاغاني الكردية. ومن سورية التي لم يبق بها وقتا طويلا وصل الى بيروت بجواز سفر مزور وهناك عمل مع بعض الصحف اللبنانية وفي المطابع ايضا. ومن بيروت توجه باريس التي دخلها وفي جيبه 500 فرنك فقط لينتقل بعدها الى مدينة كواتيه في الجنوب الغربي ليعمل في قطف الذرة. ولفترة طويلة بقي عبد الحسين يعمل في قطف الذرة والعنب والتفاح وجميع انواع الخضار بل انه عمل ايضا في تنظيف الشوارع وكحمال في هذا الوقت الذى كان فيه يدرس اللغة الفرنسية والدكتوراه في الفلسفة. ولاحقا عمل الهنداوي في مركز للترجمة في باريس من الفرنسية الى العربية وكان معه المترجمين والمثقفين الكبيرين كاظم جهاد وهاشم صالح. كما عمل في نفس فترة الدراسة في تدريس اللغة العربية مجانا ولكن ولكثافة الطلبة تكون صف داخل كلية الاداب تحول هذا الصف الى مركز اصبح فيما بعد قسم اللغة العربية في جامعة كواتيه وهو موجود الى يومنا هذا. الهم الفلسفي لم يشغل الهنداوي عن الهم السياسي والثقافي العراقي. وبالرغم من عيشه في الخارج، الا انه اسس عام 1976 في فرنسا مجلة «اصوات» العراقية المعنية بالفكر والفن وهي محاولة من اجل اعطاء صورة اخرى للواقع الثقافي العراقي، غير انها سرعان ما توقفت بسبب محاربة السلطات والمعارضة لها. وفي عام 1990 عندما كانت جريدة «الشرق الاوسط» تنوي اصدار طبعة جديدة في فرنسا، كان عبد الحسين هو مسؤول الطبعة الفرنسية ومشرفا على النواحي الطباعية. ولاحقا تم نقله الى لندن كتقني في جريدة «الشرق الاوسط»، لمدة ستة اشهر، لينتقل بعدها الى منظمة العفو الدولية في لبنان التي ظل يعمل بها لمدة ثلاث سنوات منها ستة اشهر في اليمن اثناء فترة الوحدة لمتابعة قضية الاسرى. ومن منظمة العفو الدولية الى الامم المتحدة حيث قضى ثلاث سنوات في هايتي مراقبا لحقوق الانسان، كما عمل في تنظيم الانتخابات هناك. وخلال هذه السنوات الف كتبا منها «على ضفاف الفلسفة» وكتاب «استبداد شرقي ام استبداد في الشرق» وكتاب لم يصدر بعد في نقد العقل الفلسفي الاميركي وآخر عن الفلسفة البابلية وهو اول محاولة للتعامل مع التراث البابلي ليس كاسطورة ولكن كفكر. وفي العام 1995 انتقل للعمل في وكالة «يونايتد برس» كرئيس تحرير القسم العربي ولمدة تسع سنوات.

لكن كيف ترك الهنداوي كل هذا وجاء الى العراق. يقول الهنداوي انه ما ان اعلنت اخبار التجهيز لاجراء الانتخابات، حتى ارسل عبر الانترنت خطابا يعرب فيه عن رغبته للعمل في التحضير للانتخابات داخل العراق. وكان قبلها قد زار العراق في عام 2003. ومنذ ستة اشهر والدكتور عبد الحسين الهنداوي يتسلم الدفة مع زملاء له في المفوضية العليا للانتخابات في العراق.

غير ان الرجل الذي بدأ ماركسيا، كأغلبية المثقفين العراقيين، تغير. فالماركسية لم تعد ذلك النسق العقائدي الجامد الذي يؤمن او لا يؤمن به شخص. وانما اصبحت قيم للعدالة والمساواة لا تتعارض مع قيم الديمقراطية التعددية. فالانتخابات، كما يعتقد ويأمل، ستكون شعبية على الرغم من كل التهديدات والاوضاع الامنية غير المستقرة. وهو يتوقع ان تكون مشاركة منطقة كردستان كبيرة، ويقول ان الجنوب متحمس وبغداد كذلك. غير ان الرجل المتفاؤل ليس منفصلا او بعيدا عن التركيبة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعراقيين. وهو يعترف ان التصويت في هذه الانتخابات سيكون على الارجح على الاسماء وليس على البرامج السياسية، فالناس تريد ان تصوت لمن تعرف، لا لمن لا تعرف. هذه هي العيوب التي يمكن اصلاحها مع الزمن لأي ديمقراطية وليدة. ولا يتوقع الهنداوي ان يكتسح تيار واحد الانتخابات «فالتيار الديني له ثقله في بعض المناطق، والاكراد لهم ثقلهم في مناطق اخرى، والتيار العلماني له مؤيدون وبعض القوى السياسية غير المعروفة تعبر عن مطالب الشعب ولكن الناس اعتادوا ان يبحثوا عن الاشخاص الذين يعرفونهم وليس عن تيارات لا يعرفون عنها شيئا». وفي كل الاحوال فأن الانتخابات خطوة لا غنى عنها للتحرك للامام. وربما يسخر الهنداوي في سره من فكرة الترتيبات الامنية الشديدة للمشرفين ومنظمي الانتخابات، فهو في جولاته اليومية في شوارع بغداد لا يحتاج ولا يطلب حماية مكثفة كما يتصور البعض. ان هذا يمكن تسميته الانتقال بسلاسة من الضحك الفلسفي الى الهم السياسي.

هدى جاسم

جريدة الشرق الأوسط

كانون الثاني عام 2005

علق هنا