بغداد- العراق اليوم:
بقلم:عبدالهادي البابي في منتصف التسعينيات كنت موقوفاً في سجن إستخبارات كربلاء بسبب تهمة (ترويج الكتب الدينية وبيعها) وقد حلّ علينا صباح العاشر من محرم الحرام وكنت أرى الحزن بادياً على وجوه المعتقلين الذين أغلبهم من الأبرياء وهم من محبي الشعائر الحسينية وكانوا يتمنون أن يكونوا في تلك اللحظة خارج السجن ليشاركوا ويساهموا مع المعزين في إحياء الشعائر والمجالس الحسينية التي هي جزأ من حياتهم وتاريخهم وثقافتهم التي تربوا عليها..وراح البعض يتسائل عن وجود راديو عند أحد السجناء لكي يسمعوا المقتل الحسيني من إذاعة بغداد التي كانت – وحسب تقليد قديم منذ العهد الملكي – تبث قصة المقتل الحسيني من الإذاعة الرسمية كل صباح يوم 10 محرم بصوت المرحوم القاريء الشيخ عبد الزهراء الكعبي..ولكن عناصر الإستخبارات كانوا يراقبون المكان بشدة وكانوا يعاقبون أشد العقوبة كل من وجدوا بحوزته راديو أو مسجل داخل السجن..وفي تلك اللحظة خطرت في بالي فكرة أن أقرأ المقتل الحسيني داخل السجن..وكنت حافظاً جيداً للمقتل الحسيني منذ سنوات عمري الأولى ولطالما قرأت المقتل لوالدي وعمومتي – رحمهم الله – في مجالسهم العائلية الخاصة في بيتنا..وكنت حينها أقرأه في كتاب قديم للسيد إبن طاووس رحمه الله.. وفي ساعات الصباح الأولى من يوم 10 محرم فرشت سجادة الصلاة في زاوية من زوايا السجن وصليت ركعتين قربة لوجه لله تعالى ثم جلستُ عليها ووجهي إلى الحائط وشرعتُ بقراءة المقتل دون أن أخبر أحداً بنيتي حتى من الذين كانوا يجلسون بقربي..وأثناء القراءة شعرت بأن الأصوات بدأت تنخفض بين السجناء ثم عّم السكون في القاعة وكأن على رؤوسهم الطير وأخذوا ينصتون لقرائتي وهم في خوف وترقب مما سيحصل لي..! وكلما رفعت صوتي بالقراءة شعرت ببعض السجناء يرتفع نشيجهم معي ويتفاعلون مع سير الأحداث في المقتل..ولما وصلت إلى مصيبة علي الأكبر والقاسم سمعت البكاء من خلفي واضحاً فأرتفعت حماستي معهم وزدتُ من حرارة القراءة (والتفنن في قراءة أطوارالنعي)..ولما قرأت قصة مقتل سيدنا العباس سمعت صراخ السجناء ونحيبهم يرتفع وأصواتهم تعلوا بنداء: (واعباساه وياسيداه).. وبعدها بلحظات سمعت صوت أحد حراس السجن وهو يقول: (يمعودين علكيفكم..لاتعمّون علينا..الله يستر عليكم) وكنت ألمح في صوته نبرة تعاطف وحزن معنا..فواصلت القراءة!! وفي آخر لحظات قرائتي للمقتل ضّجت القاعة الكبيرة – التي كان فيها يومذاك أكثر من 200 معتقل – ضّجت بالبكاء والنحيب والنداء: (ياحسين..يامظلوم) وبعضهم عمد إلى لطم وجهه والآخر راح يضرب صدره بشدة ويلطم على رأسه وبعضهم مزق ملابسه…فجائني سجين كربلائي معروف بتدينه وهو محل إحترام الجميع داخل السجن وعانقني وهو يبكي ثم طلب مني التوقف حفاظاً على أرواح السجناء وحفاظاً على نفسي..فأختصرت مابقي من القصة سريعاً وعندما أستدرت إلى الخلف وأسندت ظهري إلى الحائط وأنا متعب جداً ذهلتُ عندما رأيت السجناء وقد جلسوا على هيئة المجالس الحسينية صفوفاُ متساوية وكأنهم في حسينية خاصة بالمجالس وقد فاضت أعينهم بالدموع وبعضهم قد أغمي عليه من البكاء..! وأكثر المناظر التي لاأنساها رأيت حراس السجن وقد تجمعوا خلف قضبان الأبواب الحديدية وجلسوا على الأرض مقابل السجناء وهم يبكون معنا بكاءاً عالياً ونسوا بأنهم حراس في أحد معتقلات النظام..! وبعدها بلحظات جاء الحراس وهم يحملون صواني التمن والقيمة التي جلبوها من أحد المواكب الحسينية القريبة وفتحوا لنا باب السجن وأجلسونا في ممرات المعتقل وأكلنا جميعاً حتى شبعنا ذلك اليوم..!! هذه القصة لازال يتذكرها من كان معنا في ذلك اليوم من السجناء ومن الحراس على حد سواء رغم مرور أكثر من عقدين من الزمن عليها..ولطالما أستوقفني البعض منهم في الطريق وفي الأماكن العامة وسألني بلهفة: ألست أنت من قرأ لنا المقتل الحسيني داخل سجن الإستخبارات..؟ فأقول له نعم..أنا من فعل ذلك ولعلها اللحظة الوحيدة في حياتي التي (أنا متأكد يقيناً) بأني فعلتها صادقاً مخلصاً مع الله ومع نفسي دون شك أو ريب أو رياء أو غاية دنيوية..! رحم الله الذين كانوا معنا في ذلك اليوم الذي لايُنسى..وحفظ الله الباقين منهم وأطال في أعمارهم..السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين وعلى خدام الحسين..
*
اضافة التعليق