بغداد- العراق اليوم:
بتفكك الإتحاد السوفيتي، وإنهيار المعسكر الإشتراكي، أنتهت الحرب الباردة التي كانت مستعرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي لأكثر من نصف قرن، دفع فيها العالم برمته، وليست شعوب البلدين وحلفائهما فحسب، ثمناً كبيراً لا يمكن لأحد إنكاره. وعلى أثر إنتهاء هذه الحرب المخيفة التي كانت تهدد أمن السلم العالمي، توقفت كل أشكال الحروب الباردة في العالم، خاصة وهي حروب خفية غير معلنة وغير ظاهرة، تأخذ أشكالاً سياسية واقتصادية وأمنية عسكرية، وتنموية، فأستراحت بذلك الشعوب، وتنفس العالم الصعداء، بعد ان باتت فصول الحرب الباردة، حكاية تحكى عن صراعات الماضي الدفين. وكان يمكن ان ننسى نحن في العراق موضوعة الحرب الباردة، لولا عودتها الى الحياة، وإنتعاشها مجدداً، ولكن هذه المرة لم تكن هذه الحرب بين بلدين عملاقين، كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي ولا بين معسكرين سياسيين مختلفين مثل المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي الإشتراكي ولا بين أمارتين خليجيتين متنافستين، أو بين قبيلتين عربيتين من قبائل الجنوب العراقي، حيث دائماً تجد هناك الحروب "الحارة" التي لا تدع مجالاً للحرب الباردة، لكنها أعيدت الى وزارة عراقية مهنية غير سياسية، وبين موظفين عراقيين لا يفصلهم عن بعضهم أي حاجز آيديلوجي، أو عرقي، أو ديني إثني، فإنشطروا الى كتلتين متصارعتين سرياً في بعض الأحيان وعلنياً في أحيان أخرى، يقود ويرعى معالي الوزير -من حيث يدري أو لا يدري - طرفاً من هذين الطرفين، بينما بقي الطرف الثاني يعاني بسبب عدم وجود قائد وراع له، خاصة بعد أن قام الوزير بإعفاء ونقل وتحجيم مدراء هذه الجهة، أو من يظن أنه يعمل في خطها .. وهكذا اصبحت كفتا الحرب الباردة في هذه الوزارة غير متوازنة، فأينما يميل معالي الوزير بثقله الوظيفي والإعتباري، تميل الموازين مع كفته، فيصبح فيها الأبيض أسوداً إن أراده المعالي أسودا، والعكس صحيح ايضاً، وهذا أمر طبيعي في وزارات الشرق، فما بالك في وزارة عراقية، وفي منتصف عام 2019، حيث إختلت اليوم كل القيم الوظيفية وانتكست التقاليد والإعتبارات الأخلاقية في جميع دوائر الدولة، حتى بات المسؤول الشريف فيها منبوذاً، والموظف النزيه مطارداً غير مرغوب فيه ؟! وبفضل بيئة مناسبة وفرتها هذه الوزارة عادت الحرب الباردة الى الحياة، وأصبح الضرب تحت الحزام والتسقيط المجاني، والتآمر على العناصر الجيدة، والتخندق بخنادق المراكز المتنفذة، والقوى السياسية والمليشياوية المتصدرة، إسلوباً بل ومبدأ يؤمن به ويمارسه أغلب هؤلاء المتحاربين.. دعونا نكشف بعض الأوراق ونتحدث بالأسماء، والعناوين بكل صراحة، حيث يعرف الجميع في وزارة النفط، أن ثمة طرفاً وظيفياً يقف على يمين المشهد في هذه الوزارة العتيدة، يعيش اليوم أحلى أيامه، متباهياً بما يتحقق له من انتصارات على الطرف الآخر، أي الطرف الذي يقف في يسار المشهد الوزاري. ولعل النقطة الحساسة في عصب هذه الحرب غير المتكافئة تتركز في موقف الوزير ثامر الغضبان الذي لن يكتفي بدعم الطرف اليمين بقوة، وتدعيم صفوفه بعناصر جديدة كل يوم، ولا بإضعاف جبهة اليسار ، بل وتدميرها ايضاً، من خلال عدد من الخطوات والقرارات المتواصلة التي بدأت منذ الأيام الأولى لتسلمه المنصب الوزاري، فكان التدوير العشوائي لوكلاء الوزير، أول علامات الخيار المتحيز الذي إختاره معالي الوزير، وهو التدوير الذي جعل أبناء القطاع النفطي يقولون: أن الغضبان جاءنا (متأبط شراً ) ! وقد ساعد على هذا الظن السلبي بقرار التدوير أنه جاء متسرعاً وبدون تخطيط، ولا أدنى تدقيق أو تمحيص أو مراعاة لعامل التخصص، أو حتى الإهتمام بموضوع الخبرة المتراكمة التي تعد عنصراً فاعلاً في نجاح أي مسؤول بوزارة النفط، لذلك يمكن تشبيه قرار التدوير العشوائي الذي قام به الغضبان بمن يضع المهاجم الكبير فلاح حسن بمركز حامي الهدف، ثم يأتي بحارس المرمى الشهير رعد حمودي ويضعه في مركز المهاجم، أو ذلك الذي يشرك الملاكم الدولي اسماعيل خليل في فريق الجمناستيك، أو ينقل العداء الذهبي سامي الشيخلي الى لعبة المصارعة، فهذه أخطاء مدمرة لا تضر بهؤلاء اللاعبين فحسب، إنما تضر وتدمر عموم الرياضة العراقية، عبر تجاهل الاختصاص، واحتقار تراكم الخبرة! نعم، فبمثل هذا التشبيه اامضحك المبكي فعل الوزير الغضبان في أول أيام تسنم منصبه الوزاري، مما أعطى إنطباعاً أن الرجل جاء ليفعل، بل ويفعل أي شيء مهما كان نشازاً أو خارج القياسات والمعايير! بعد ذلك ألحق قرار التدوير بقرارات أخرى لاتقل كارثية عنه شملت جملة من الاعفاءات والتنقلات الغريبة والتعيينات غير المدروسة، بعضها أثار دهشة واستغراب اصدقائه قبل خصومه، خاصة اولئك الاشخاص الذين وضعهم بمنصب مدير عام في دوائر مهمة بالوزارة، دوائر ذات وزن يحتاج القرار فيها الى شخصية وازنة وفاعلة ورصينة، شخصية مكتنزة بالخبرة، والعلمية، وقوة الشخصية، وليس صبياناً صغاراً في كل شيء، بحيث لايهشون ولاينشون كما يقول المثل العراقي، ففتح هذا التوجه غير الطبيعي شهية الاشخاص غير الطبيعين، من الموظفين الطامعين والطامحين بلا حق، وضعاف النفوس والفاسدين، وكل الذين أفرزتهم هذه المرحلة السيئة، وقذفت بهم الى مركز هذا القطاع المهني المحترم، إذ وجد جميع هؤلاء ان الوصول الى الصدارة في هذه الوزارة أمر سهل لا يتعدى عتبة الوزير، فحتى تكون مديراً عاماً مقرباً وقريباً الى الوزير عليك ان تكون ضد بعض الاشخاص الذين لا يميل الوزير اليهم، وسيكون قدحك الأعلى والمعلى حين تكون واشياً له، تنقل له ما يحبه، ويطرب لسماعه ضد من يعتقد بأنهم خصومه -وهم ليسوا خصومه طبعاً- ! وشيئاً فشيئاً بدأت تكبر كرة الثلج الخاصة بالغضبان، فأجتمع حوله كل من يريد ان يكون نافذاً متنفذاً في قطاع النفط، وبالمقابل فقد راح الوزير يمنح المزيد من الصلاحيات والسلطات لبعض الأشخاص الذين لا وزن ولا قيمة مهنية أو اعتبارية لهم، على حساب اصحاب القيمة الحقيقية والمستوى المهني القيادي وبذلك سيطر فريق معالي الوزير على ملعب الوزارة بالغش والتحيز، والإبعاد الظالم للعناصر المؤثرة غير الهزيلة، ويبدو ان الوزير الغضبان فرح وسعيد بهذه النتائج المتحققة بفوز اتباعه من (اليمين الذيلي)، فها هو يصبح اللاعب الوحيد في ميدان النفط،(يعني يفصل ويلبس براحته)، ولم يعد أحد يناقشه أو يعترض على قراراته، خاصة وان ثمة " تفاهماً " وايقاعاً مشتركاً بينه وبين رئيس الوزراء - ستكشف الأيام لغز وسر هذا التفاهم القوي والغريب - حتى تمكن الغضبان من البطش بخصومه - أفراداً وشركات ودولاً- أو من يظن أن " في صدره نقطة سوداء تجاهه"! لكني اجزم ان الغضبان يدرك جيداً أن نصره هذا لن يدوم طويلاً، ويدرك جيداً ان فرحته هذه لن تبقى الى ما لانهاية، فهذا النصر نصر كارتوني لا يختلف عن انتصارات صدام وحزب البعث في حروبه الخاسرة، فكل ما يبنى على خطأ ينتهي بذات الخطأ، وهذه بديهة لا تحتاج لأي برهان .. إن الوقائع التاريخية تمدنا بالامثلة، وتجعلنا نتأكد من ان ما فعله ويفعله الوزير الغضبان خلال فترة وزارته هذه لن يأتي على القطاع النفطي بغير ما تأتي به الكوارث من خراب وتدمير، وعليه ان لايظن بأنه سيكون في مأمن إذا ما هد المعبد على رأس البلد، أو إنه يستطيع الهرب والنجاة إذا حدث الزلزال بسببه لاسمح الله، علماً بأن الزلزال قادم لا محال، إذا ما ظل العراقيون يعتمدون على النفط اعتماداً كلياً، وإذا ما ظل الغضبان وزيراً للنفط، وبقي منتهجاً ذات اسلوبه التدميري، معتمداً على ذات طريقته بإبعاد وتحجيم الرؤوس المقتدرة، وتقريب الذيول وتسليطها على مقدرات القطاع النفطي الذي بات اليوم مصدراً وحيداً لمعيشة العراقيين ! إن المناخ المتوتر، والجو المشحون بالكراهية الذي خلقه الغضبان في اروقة وزارة النفط، وفي نفوس أغلب الكوادر الوزارية ايضاً قطعاً لن يفيده بشيء كما يظن الغضبان نفسه، بل أنه لن يفيد احداً سوى المتصيدين في الماء العكر، ونهازي الفرص الرخيصة، ومستغلي الأزمات، فأرجو أن يدرك الغضبان الامر قبل فوات الأوان، حيث لا ينفع وقتها الندم !
*
اضافة التعليق