بغداد- العراق اليوم:
إنعام كجه جي أوائل سبعينات القرن الماضي، جاء إلى قاعة التحرير في جريدة «الثورة» البغدادية رجل من الموصل ومعه ابنتاه: جنة وفرح. كانتا دون العاشرة من العمر، أعطى الأب لكل منهما قصبة ومحبرة وطلب من المحررين أن يتفرجوا. راحت الطفلتان تخطان عبارات وأبيات شعر بأنواع من الخطوط التي لا يجيدها سوى المتمرسين في هذا الفن. كان استعراضاً عجيباً ومفاجأة جميلة. فالصغيرة تعلمت الخط قبل أن تتعلم القراءة. وتجمع الزملاء من كل الأقسام ووقف خطاطو الجريدة في الصف الأول. ولو لم نكن نرى بأعيننا ما تقوم به البنتان لما صدّق أحدنا أن الكتابات من إبداع تلك الأنامل الصغيرة. نشرت الجريدة في صفحتها الأخيرة موضوعاً مصوراً عنهما وصارت جنة وأختها فرح حديث المجالس. وكنت أتابع مسيرتهما وهما تكبران وتكبر معهما مهارتهما في الخط. كان والدهما عدنان أحمد عزت فناناً من عشاق الخط العربي. استعان بصديقه الخطاط الموصلي يوسف ذنون لكي يدرب البنتين على قواعد ذلك الفن. إن تقاليده المتوارثة منذ قرون تقضي بأن يكون التلميذ متدرباً مطيعاً لمعلمّه، يكنّ له التقدير والإجلال، ذلك أن المعلّم يستودع لدى تلاميذه أسرار حروف كُتبت بها المصاحف. لم يكتفِ الأب بذلك بل أخذ ابنتيه إلى تركيا لكي يقدمهما للخطاط الكبير حامد الأمدي. كانت جنة تميل لخط الثلث وتبدع به. وهي قد أدهشت الأمدي بحيث إنه منحها الإجازة وهي في الرابعة عشرة من عمرها. والإجازة من الخطاط العَلَم هي بمثابة الشهادة التي ما فوقها شهادة. بعد ذلك مضى الأب مع جنة وفرح إلى القاهرة للقاء شيخ الخطاطين العرب سيد إبراهيم، الذي امتحنهما وأعطاهما إجازة ثانية. مرت السنوات وخرجنا إلى دروب الهجرات. وعرفت أن جنة عدنان عزت تزوجت وأصبحت أمّاً واستقر بها الحال مع أسرتها في نيوزيلندا، قبل عقدين من الزمن. أصبحت خطاطة ومصممة معروفة تقيم المعارض وتجيد الخط باليدين، بالمهارة ذاتها. ترسم عبارة باليد اليمنى من اليمين إلى اليسار، ثم تنقل القصبة إلى يدها اليسرى وتخط العبارة ذاتها من اليسار إلى اليمين بشكل معكوس. قدّمت الفنانة العراقية لجيرانها الأجانب والعرب صورة جميلة للمرأة في البلد العريق الذي جاءت منه. سمعتها تتحدث في برنامج إذاعي وتروي كيف حرصت على أن تأخذ معها إلى تلك القارة البعيدة أنواعاً وأحجاماً مختلفة من قصبات الخط. من يدري، فقد لا تعثر على عدّة العمل هناك. قالت إن لكل خطاط طريقته في بري قصبته. وذكرت أنها تقوم بتحضير الأحبار والورق الذي تخط عليه لوحاتها من مواد طبيعية لا تتأثر بالحرارة والرطوبة. وأسعدني في حديثها إصرارها على أن تُسمى الخطاطة الموصلية. وهذه مسألة تخصني. يترك المهمومون بلادهم إلى بلاد يظنونها أقل هموماً. هيهات. فقبل يومين، عقب مجزرة المسجدين في نيوزيلندا، رأيت في مواقع التواصل سيدة بالغة الاضطراب، تتحدث بلغة إنجليزية جيدة وتقول إن ولدها الشاب ذهب للصلاة في مسجد النور ولا تعرف عنه شيئاً. إن هاتفه لا يجيب. وهي تبحث عنه وتسأل الشرطة ولا أحد يفيدها بجواب. يقولون لها: انتظري. وأضافت أن اسمها جنّة واسم ولدها حسن حازم العمري. وهي قد انتظرت بحرقة القلب التي تعرفها كل والدة. وأمس، عند الظهيرة، كتبت جنّة عدنان على صفحتها في «فيسبوك»: «البشرى باستشهاد ولدنا حسين. هنيئاً لك أيها الابن البار. كنت على وضوء وعلى سجادة الصلاة في بيت الله. أبشر يا ضناي، والداك راضيان عنك». هل تعرف نفس بأي أرض تموت؟
*
اضافة التعليق