بغداد- العراق اليوم:
بقلم الدكتور محمد جاسم
يستمر القاضي قاسم العبودي في عرض تجربته بوصفه مختصاً في شؤون الانتخابات مستثمراً هذه المعرفة باحثاً في العلوم السياسية في بيان تأثير هذا الحقل من المعرفة على مجمل عناصر النظام السياسي (الدستور ، الدولة، الأحزاب، التحالفات، الناخبين،)عن طريق دراسة وتحليل للآليات الدقيقة والجزئية التي يرى أنّها الأكثر تأثيراً في إعادة صياغة أي نموذج ديمقراطي وقد اضاء في مقدمته لهذا الكتاب (لقد بحثنا في كتابنا "تأثير النظم الانتخابية في النظام السياسي دراسة مقارنة بالتجربة العراقية" مدى تأثير نوع النظام الانتخابي وشكله على مجمل الحياة السياسية في النموذج الديمقراطي وعرضنا بالإحصاء والتحليل ذلك التأثير في "التجربة الحزبية وطبيعة التحالفات، الأداء الحكومي وشكل الدولة" أما في كتابنا هذا فتعرّضنا لبيان العوامل المؤثرة في النظام الانتخابي نفسه بمعنى البيئة الانتخابية التي تساعد وتؤثر في تبنّي نوع النظام الانتخابي كالقوانين والإجراءات المنظمة لعمل الأحزاب والتنوع الطائفي والاثني لمجتمع الدولة وكذلك السلوك الانتخابي للناخبين والمرشحين و بحثنا تأثير تطور التقنية الحديثة وانعكاسه في استخدامها الواسع في العمليات الانتخابية وعلى الرغم من أن تلك العوامل أدت إلى إنتاج أشكال مختلفة ومرنة للنظم الانتخابية وأسهمت في تطور وتعدد آليات الانتخاب إلا أنها في الوقت نفسه باعدت بشكل كبير بين الممارسة الديمقراطية والمفهوم التقليدي لها). يصر المؤلف على الابتعاد عن الأطر الاكاديمية الجامدة فلا يأبه بالتعريفات والتصنيفات التقليدية مركزاً على التجربة الشخصية العملية متأثراً بالمنهج الغربي بدارسة هذا الحقل المتغير في العلوم السياسية الذي يعده منهجاً تجريبياً بحتاً والفكرة التي يطاردها المؤلف أو لعلها هي التي تطارده هي محاولة اقناعنا دائما أنّ الديمقراطية التي درسناها وقرأناها وحلمنا بها كحل مثالي لإدارة السلطة وتداولها ليست كذلك وهي تقترب وتبتعد عن مفهومها التقليدي بقدر اختلاف المجتمعات وتغايرها وتعدد احتياجاتها مما يملي نمطاً وسلوكاً خاصاً لكل تجربة من تجارب الدول ويرى المؤلف أنّ البحث في حقول المعرفة الديمقراطية وأهم مستلزماتها وهي الانتخابات تستدعي الاستقصاء والاطلاع على الآليات والإجراءات الدقيقة والتفصيلية التي يغفل عنها البحث الأكاديمي دائماً بتركيزه على الجانب النظري رغم تأثيرها الكبير في تطور نماذج الحكم الديمقراطية لذا يبقى البون شاسعاً بين النظرية التي يركز عليها البحث العلمي والاكاديمي وبين الواقع العملي المعاش. يوطئ المؤلف لقصة الديمقراطية الحديثة بجدل الآباء المؤسسين حولها ومواجهتها لأول مرة حين تحولت طموحاتهم وأحلامهم إلى حقيقة أشبه ما تكون كالصورة في المرآة ينقصها الوجود المادي والموضوعي, لم يعد باستطاعتهم ترجمة ما تعلموا وقرأوا لجان جاك روسو وآدم سميث وجان لوك إلى واقع وممارسة إذ إنّ طبيعة المجتمع واحتياجاته وتعقيداته السياسية والدينية والمذهبية شكّلت عائقاً حال دون تطبيق تلك التعاليم والأفكار وهنا يستشهد أحدهم بما كتبه (جان جاي) في إحدى مقالاته "نريد نوعاً من الحكم يّتفق وحالنا وعاداتنا، وهي حال فيما أعلم، لا تتفق اتفاقاً تاماً مع المثل الديمقراطية الصرفة""() وكتب (هاملتن) لصديقه (جان جاي) عن مزالق الديمقراطية المتطرفة المعزولة عن النظام، قائلاً "هذه أيامٌ علينا أن نُحاذر فيها التطرف المقيت، فالنفوس هائجة ثائرة، وصلت في ذلك حداً لم تصله من قبل. إن الجماهير لا تملك المنطق ولا المعرفة لتقاوم الطغيان والظلم حين يستشريان، وهي حين تستسلم لأهوائها الجامحة تحتقر السلطان وتنساه في غمرة الهذيان"()، ويرى المؤلف أنّ مثل هذا الجدل شائع في التجارب الديمقراطية ويؤثر في إعادة صياغتها. ويأخذنا القاضي قاسم حسن العبودي في رحلة مدرسية في طبيعة النظم الدستورية والقانون الدستوري فهو يرى أن العملية السياسية ومؤسسات الدولة الدستورية قد لا تنسجم في أداءها وممارستها للسلطة مع الموادّ الدستورية المنصوص عليها بين دفّتي الوثيقة الدستورية و الحياة السياسية قد تجبر بسبب الاحتياجات الخاصة لمجتمع الدولة إلى خلق قواعد دستورية جديدة ليس لها علاقة بتلك الوثيقة ((فهي أنظمة حيّة تستمد مصادر الحياة من التفاعل بين العناصر التي تدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في تكوين النظام السياسي، فأداء المؤسسات الدستورية يرتبط بواقع القوى السياسية التي تتولى إدارة هذه المؤسسات. وقد قال العلامة في القانون الدستوري (ليون ديغي Léon Duguit) إن قيمة المؤسسات هي من قيمة العاملين فيها. و إن بنية المؤسسات في الدستور والعلاقات فيما بينها، وصلاحيات كل منها، تتأثر أيضاً بواقع القوى السياسية وموازين القوى القائمة في مجتمع الدولة. لذلك لا يمكن دراسة الأنظمة الدستورية إلا في إطار علاقتها بالحياة السياسية، فالسياسة هي الأساس، وإذا كان الدستور هو الذي يرسم قواعد اللعبة السياسية على مستوى مؤسسات الحكم، ويحدد آليات عمل المؤسسات الدستورية، فالسياسة هي التي تؤثر في رسم هذه القواعد والآليات، وهي التي تتقيد بها في الممارسة، أو تنحرف عنها، أو تتسبب بأزمة فيها، قد تقود إلى المأزق، وتعطيل المؤسسات الدستورية، وسائر مؤسسات الدولة)).() فإن المؤلف يرى أنّ الآباء المؤسسين لأي نموذج ديمقراطي وعلى الرغم من حرصهم في نحت الوثيقة الدستورية بأن تكون بعيدة عن التأويل والتفسير إلاّ أنّ التجربة العملية تعاكس هذه الرغبة ((إن مشرِّعي أي دستور، يؤسس لأنموذج ديمقراطي على أنقاض الحكم المطلق والدكتاتورية والاستبداد، يحرصون على أن تكون نصوصه مثل سور الصين لا يستطيع أن يقفز عليها أحد أو يجد من خلالها أيّة ثغرة للنفاذ، وأن أياً من هؤلاء الآباء المؤسسين لتلك النماذج ليس بإمكانه أن يستشرف العوامل التي قد تبرز نتيجة الصراع أو التنافس، والتي من شأنها أن تعيد صياغة الحياة السياسية بعيداً عن تلك النصوص مهما كان ذلك الدستور عصيّاً على التعديل (جامداً).إذ إن الأنظمة الدستورية لا يمكن دراستها إلا في إطار علاقتها ببيئتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية)). وتحت عنوان العوامل المؤثرة في انتخاب رأس السلطة يختار المؤلف أربعة نماذج, نموذجين علمانيين واخريين دينيين. آليات انتخاب الرئيس الأمريكي, والرئيس الهندي, وبابا الفاتيكان, والولي الفقيه في إيران عن طريق بحث إجراءات وآليات انتخابهم وصولاً الى استنتاجه الملفت أنّ التغاير والاختلاف في نظرية الحكم سواء كان أساسه وضعياً أم الهياً (دينياً) فإن الإجراءات والآليات الموضوعة لتطبيقه تفضي لا محال إلى حلول وإجراءات واقعية وتخضع لمنطق الواقع الذي تمليه الاحتياجات المتغيرة بدورها, وهنا يرى المؤلف أنّ التجربة الإيرانية مثلاً تحذو في سياق الأحداث التاريخية حذو التجربة الامريكية إذ يتم اختيار رأس السلطة في كلا النموذجين بطريقة غير مباشرة كما تجرى انتخابات الهيئة التشريعية وفق نظام الأغلبية ويوجد في النموذج الإيراني تياران سياسيان مختلفان لا يمنع ان يتأطّرا مستقبلا بأطر حزبية كما حو الحال للحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الامريكية. ومن ثم يفصل المؤلف في بيان الاحتياجات الخاصة بكل مجتمع التي تملي تبني نوعاً خاصاً من الديمقراطية يستجيب لهذه الاحتياجات التي تصاغ على شكل اشتراطات دستورية أو قانونية كتلك التي تعطي تميزاً ايجابياً لشرائح معينة كالنساء والأقليات ويعرض لنماذج مختلفة للديمقراطية وطريقة تعاملها مع هذا التمييز لضمان تمثيل ومشاركة لتلك الفئات من المجتمع و لا يفوته عرض الأحكام القضائية الخاصة بحلّ النزاعات حول هذا الموضوع وهنا ينبهنا المؤلف إلى موضوعه الاساسي في هذا الكتاب هو ان هذه الاشتراطات لا بد ان تخل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة التي هي احد اركان النظام الديمقراطي ومن هنا نعود مع المؤلف الى الوراء لنقف على تطور مفهوم الديمقراطية في الدول الاتحادية الذي بحثه في كتابه الثابت والمتحول في النظام الفدرالي بشكل مسهب وأضاء لنا بعضاً من محتوياته في هذا الكتاب وبعدها بدأنا نقترب أكثر من التجربة الانتخابية في العراق بطريقة مشوقة إذ تم تسليط الضوء على قانون استبدال الأعضاء رقم (6) لسنة 2006 المعدل مع عرض تحليلي للقانون يشمل الجوانب الفنية .. فضلاً عن عرض وتحليل مقترح تعديل النظام الانتخابي في العراق لانتخابات مجالس المحافظات .. مع عرض شامل للأنظمة المختلفة ومنها مزايا أكثر من نظام واحد، والنظام المختلط المتوازي وإمكانية تطبيقه في العراق .. وصولاً إلى تكنلوجيا الانتخابات المتضمنة عمليات العدّ والفرز وإعلان النتائج .. مع عرض مفصل ودقيق لكل تلك العمليات وعيوب ومزايا تلك التكنولوجيا والمشاكل التي ترافقها والكيفيات التي يمكن تدارك تلك المشاكل.. وهنا نؤشر أهمية التجربة العملية للقاضي (قاسم العبودي) في تحديد ذلك. بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى بيان الخصوصية المحلية للتجربة المحلية في العراق عن طريق قراءة وتحليل انتخابات مجالس المحافظات وانتخابات مجلس النواب ودراسة العوامل المؤثرة فيها وتطور الأداء الانتخابي للأحزاب و تنامي ماكناتها الانتخابية وشكل تحالفاتها عارضاً ذلك بالإحصائيات والأرقام والجداول. ثم يسترسل المؤلف في بيان تأثير النظام الانتخابي على مجمل الحياة السياسية ومفاصلها من تعددية حزبية وشكل الدولة وتوزيع السلطة فيها.
ثم يطرح المؤلف اطروحته في تطوير النظام الانتخابي عن طريق اقتراحه أشكالاً جديدة لنظم انتخابية قد تعالج بعض الخلل وتستجيب لبعض الانتقادات لطبيعة النظام الانتخابي السائد لكنه يقرّ بالحقيقة الثابتة التي طالما كرّرها علينا بكتاباته أنّ كل نظام انتخابي بالعالم له من المزايا ما تعادل عيوبه.
يعرض بعد ذلك المؤلف لواحدة من أهم المؤثرات في العملية الانتخابية التي أدت بدورها إلى تغيير جوهري في طبيعة النظام الديمقراطي بمنحه مزيدا من المرونة في الاستجابة لطموحات الناخبين وهذا العامل هو تنامي واتساع استخدام التكنولوجيا في العملية الانتخابية ويرى بأنّها تلعب دوراً كبيراً في تطور العملية الانتخابية وساعدت في تبني انظمة انتخابية اكثر مرونة لكن المؤلف لا يخفي نقده الشديد لاستخدامها في التصويت مستدلاً في ذلك بتجربته الشخصية واطلاعه الواسع على التجارب الدولية وتراجع معظمها عن استخدامها في التصويت E-VOTING.
وفي المحور الخاص بالسلوك الانتخابي يعرض المؤلف لنظريات السلوك السياسي لعلماء النفس والاجتماع السياسي بالتفصيل ثم يحاول إسقاط تلك النظريات والأفكار على سلوك الناخبين والمرشّحين في النماذج الديمقراطية المختلفة مستعيناً باطلاعه وتجربته العملية بوصفه أحد خبراء الانتخابات ومصممي النظم الانتخابية, مدى تأثير كل نوع من انواع تلك النظم على هذا السلوك ويتفرع في بيان تأثير حتى نوع وشكل القائمة الانتخابية في هذا السلوك وانماطه عارضا ذلك من خلال بحث التجربة العراقية بين القائمة المغلقة والمفتوحة وهو مالم يتعرّض له الباحثون والمختصون في السلوك الانتخابي وهنا تظهر أهمية التجربة والخبرة الفنية في دراسة حقل المعرفة الانتخابية ودوره في صياغة النموذج الديمقراطي وفي الاخير يطلعنا المؤلف على دور استطلاعات الرأي في التأثير في إرادة الناخبين وتوجيهها وفقاً لإرادة القابضين على السلطة أو حتى المعارضين .
القاضي قاسم حسن العبودي
*
اضافة التعليق