بغداد- العراق اليوم:
لم يُكتب للمعمارية زها حديد (1950 - 2016)، أن تشهد الاحتفاء بتصاميمها في "معرض وينتون للرياضيات"، في "متحف العلوم" في العاصمة البريطانية لندن. رحيل حديد المفاجئ، كان بمثابة صدمة للكثيرين، لعل ذلك لا يختلف عن إبداعاتها في عالم الهندسة التي لطالما أبهرت الناس وفاجأتهم.
في المعرض، قد ينشغل الزوّار بتاريخ الرّياضيات وأهميّتها في حياة الإنسان، كونه يحتوي على قصص تبرز تأثير هذا المجال العلمي في حياة البشر، لكن يصعب إغفال وجود زها حديد الطاغي الذي يراقب المكان من الأعلى ومن جميع الجوانب، ويُضفي عليه سحراً.
اختارت المعمارية العراقية الرّياح لتصاميمها للفضاء الذي يحتضن المعرض، تلك الرّياح التي تتدافع حول الطائرات في الأعالي. ربّما أرادت أن تسمو به كي يتلاءم مع شخصيات أثّرت في تبديل مجرى البشرية. وكان لطائرة (Gugnunc) من "هاندلي بيج"، التجريبية التي بنيت عام 1929، الحظ أن تقع وسط تصاميم زها حديد، التي ارتكزت على مبادئ الرياضيات، وتمثّل تدفّق الهواء نتيجة حركة الطائرة.
تقول بيديشا سينها، التي عملت إلى جانب حديد، في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "المعرض بأكمله هو نتيجة الحركات التي قد تحدث حول الطائرة"، مضيفة أنّ "الرياضيات تكمن وراء الكثير من الأعمال التي نقوم بها، والمعرض يقدّم فكرة عن ذلك، ولا يسعى إلى تلقين الناس الرياضيات في زمن يسهل فيه الوصول إلى المعلومات".
بدورها، قالت مديرة العلاقات العامّة في "متحف العلوم"، جوليا موراي، إنّ "المعرض سيحفّز الملايين من زوّاره على التفكير بمادة الرياضيات بطرق جديدة وأهميتها بالنسبة إليهم"، وتابعت "إنّ منظّم المعرض ديفيد روني، قال إنّ المعرض في صميمه يعكس ثقافة النشاط الإنساني الغني، الذي ساعد على تبديل العالم خلال الأربعة قرون الأخيرة".
تشير موراي إلى أنّ "وينتون" يحلّ مكان معرض الرّياضيات والحوسبة الذي تواجد في المكان ذاته لمدّة 25 عاماً. وعن اختيار زها حديد لتصميم المعرض، تلفت موراي، إلى أنّ المصمّمة المعمارية العراقية فازت في مسابقة مفتوحة من بين عدد من المعماريين الذين شاركوا فيها، وأكّدت أنّ القيّمين على المتحف، أعجبوا بأسلوبها الذي استخدم المعادلات الرياضية لتصوير تدفّق الهواء حول طائرة "هاندلي بيج"، مما حوّل المكان بأكمله إلى معرض رياضيات.
تناول المعرض مواضيع تتعلّق بكافّة جوانب الحياة، لا تجيب فقط عن تساؤلات الكثير من طلاب المدارس حول أهميّة الرياضيات ومدى استخدامها في المستقبل، بل تهدف إلى تبديل نظرتهم إلى هذه المادّة.
"القدرة على العدّ، لا تختلف عن مهارة الكتابة أو التحدّث، ونحتاجها بشكل يومي"، هكذا كتب على إحدى لافتات المعرض. لذلك استعان الإنسان بأجهزة منذ آلاف السنين بدءاً من الـ (Abacuses) "العدّاد"، إلى حاسبة الجيب التي يعود تاريخها إلى 350 عاماً، وكانت لا تتجاوز القيام بعمليات الجمع والطرح.
إلى جهة اليسار، ومع مجموعة أجهزة العد، نرى ماكينة اللوتو الأولى في بريطانيا (Guinevere) المستعملة في ألعاب الحظ. يحدّثنا المعرض عن أن ألعاب الحظ أقدم بكثير مما نظنّ، إذ وجد علماء الآثار أدلّة على أنّ الناس في القدم استخدموا بعض أنواع عظام الحيوانات كنرد بدائية. بيد أنّ احتساب فرص الحظ عبر الرياضيات لم يفهم سوى مع القرن السابع عشر. وليس مصادفة أن يستخدم أهمّ علماء الرّياضيات رمي النرد، لمساعدتهم على حلّ نظريات الاحتمالية المعقّدة.
وكغالبية المعارض، نجد الجماجم البشرية في "وينتون"، التي تروي قصّة عالم الفيزياء، فرانز جوزيف غول، في عام 1805، حين قدّم مئات الجماجم البشرية، وزعم أنّه يستطيع من خلال شكلها معرفة شخصية صاحبها المتوفى. لم يتقبّل العلماء فكرته لنقص الأدلة وهاجموها، لكنّها عبّدت الطريق لعلم جديد هو "الأنثروبومترية" (قياس وتصنيف الناس).
علم الفلك والنجوم تتناوله العديد من القطع الأثرية في "وينتون"، ومنها الإسطرلاب، الذي أنشاه علماء يونانيون ورومان قبل ألفي عام. لكن حين اندثرت تلك الحضارات ضاعت معرفتهم في أوروبا، لولا أن علماء الإسلام أخذوها وطوّروها. وكان الإسطرلاب ذا أهمية كبيرة فقد كان يعني أن حامله كمن يمسك بأسرار الكون، وكان بناؤه يعتمد بشكل مكثّف على تقنيات الرّياضيات.
وبما أنّه من الصعب تخيّل عالم اليوم من دون كمبيوتر، يبيّن لنا المعرض أن قوّة الكمبيوتر تكمن في أنّه يستطيع حساب أي شيء نعبّر عنه بالأرقام، وأنّه من الداخل مجرّد آلات حاسبة سريعة تقوم بعمليات حسابية، بيد أنّ الأرقام فيه قد تمثّل رموزاً، يمكننا استخدامها كما يحلو لنا.
يتناول المعرض أيضاً أهميّة الرياضيات في الحرب والسلام، فالحروب قد تكون سبباً في ابتكارات في الرياضيات، بداية من اختراع القنابل وصولاً إلى اتّخاذ القرارات الاستراتيجية الصعبة بسرعة. هناك دوماً علاقة بين الرياضيات والحرب والسلام، وأبرزها، قصّة عالم الحاسوب والرياضيات البريطاني، آلان تورينغ، في عام 1950، الشهير بتفكيك رموز البحرية الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية.
يقدّم "وينتون" المزيد عن تاريخ الرياضيات، وقدرتها على التدخّل في جميع شؤون حياتنا، تحت تلك الإضاءة بالألوان البنفسجية، التي هيمنت على المكان. وكان لزوّار المتحف تعليقات تراوحت بين الإيجابية والسلبية، إذ رأى أحدهم أنّه تقليد لـ (The Serpentine) وقال إنّه توقّع شيئاً جديداً، بينما عبّر آخرون عن إعجابهم، في مقابل من رأوا في اللون البنفسجي والتصميم أمرين مشتّتين للانتباه أو التركيز على المعروضات. إلى ذلك، قالت جين (52 عاماً)، لـ "العربي الجديد"، إنّ "معرض وينتون"، لا يمثّل أفضل إنجازات زها حديد أو أكثرها أناقة.