بغداد- العراق اليوم:
من يعرف الوزير الحالي للداخلية قاسم الاعرجي عن كثب أو من اطلع على سيرته المهنية والجهادية، فأنه سيعجب بها أشد الاعجاب، لاسيما وأن للرجل شخصية عصامية قوية، واتجاهات واضحة مؤمن بها ويدافع عنها بقناعات راسخة، وقد دفع الرجل ثمناً باهظاً لذلك، لكنه واصل مسيره على هذا الطريق دون ان يكل أو يمل. فنجاحات الاعرجي الكبيرة في الداخلية لم تكن وليدة صدفة، أو أنها مجرد ضربة حظ، أبدًا، فالرجل حقق نجاحات هامة في العمل الحكومي، وقبلها نجاحه في جهاده ضد النظام الفاشستي السابق، الذي تصدى له الاعرجي بقوة، هو ورفاقه بقيادة شهيد المِحراب محمد باقر الحكيم، وغيرهم من رموز مقاومة الطغيان، وقد دفع هولاء الرجال ارواحهم في سبيل تحقيق هدف الشعب العراقي في التخلص من ربقة الدكتاتورية المقيتة. وللأمانة فإن الاعرجي لم يترك محوراً، أو قاطعاً من قواطع المنازلة مع صدام الا وخاض فيه معركةً، سواء في عمق أهوار ميسان المحبة، أو في ناصرية البطولة، وبصرة الاباء او فوق جبال كردستان الشماء، فكان ذلك المقاتل الباسل، والمجاهد المؤمن بحتمية النصر. وحين حدث ما حدث في 2003 والنتيجة الكارثية التي اوقعت الدكتاتورية فيها العراق، لم يشأ الأعرجي ان يدفع نفسه تحت حراب البنادق الاجنية ليجلس على كرسي وثير، بل تقدم في صفوف المقاومة الاسلامية ضد الاحتلال، ولسان حاله يقول: من لم يرض بصدام وحكمه لا يمكنه القبول بحكم الاجنبي مهما كانت اهدافه المعلنة! فكان الثمن حبساً لشهور طوال في سجون الاحتلال، وما أن خرج حتى انبرى للعمل السياسي، فانتخب عضواً في حكومة واسط المحلية، ليترشح بعدها نائباً نشطاً في البرلمان العراقي بدورته السابقة، وهكذا واصل الرجل مسيرته النيابية، متابعاً شديد الدفاع عن العراق ومصالحه، متجاوزاً هواجس الأمس بكل ما فيه، وما له وعليه، دافعاً بقوة عن مصالح بلده، فلا يترك شاردةً، أو واردةً الا وأسهم فيها. لكن السؤال الذي ظل حائراً يبحث عن اجابة عملية وليست نظرية، أو فلسفية، هو: هل يمكن لرجل الثورة، أن يكون رجل دولة ناجح ايضاً ؟ فجاء الجواب بعد ان أختير الاعرجي وزيراً للداخلية في ظرف صعب بالغ التعقيد، وكان الكثيرون ممن عرفوا بخبرتهم يتخوفون من الفشل في منصب كهذا، لا سيما وإن ثلث البلاد محتلة من قبل عصابات داعش المجرمة، لكن الاعرجي فاحأ الجميع، ووافق على تحمل المسؤولية مخيراً ومتطوعاً، وليس مكرهاً، فقاد الرجل الداخلية بقدرة وكفاءة عالية فاتحاً سجلاً جديدًا من الانجازات الكبيرة، ولعلنا في (العراق اليوم) كنا أول من أضاء بعض هذه الإنجازات، نشرت اولاً في حلقات متعددة قبل اشهر، ثم جمعت في كتيب متوسط الحجم. لقد كان نجاح الاعرجي واضحًا ومشجعاً، فهذا الوزير مقاتل حقيقي لا يتردد في أن يقف في جبهة القتال بل وفي الخطوط الامامية للمواجهة، وهكذا تحقق بفضله، وفضل امثاله الشجعان نصرنا الكبير على داعش في ظل وزارته. ومع أهمية مثل هذا الانتصار الكبير ومع النجاح الذي تحقق في ميدان الحرب، الا أن الرجل اثبت ايضاً قدرات ممتازة في ادارة الوزارة، فأثبت بشكل قاطع أنه رجل سلم، ورجل دولة من الطراز الذي يبحث عنه العراق فعلًا. فهذا الرجل الذي كان البعض يظن أنه يتحين الفرصة لتحويل الداخلية الى فرصة ذهبية لتصفية خصومات الأمس، كان تجربة أكبر من المتوقع، فهو الذي قالها بوضوح: ليس لي عداوة شخصية مع أي عراقي، ولستُ طرفاً في الحكم على الناس مهما كان انتماؤهم السياسي أو المذهبي او الديني، بل الوزارة منفذ لمجرى العدالة لا غير! كان هذا المنهج يبدو مثالياً لأرث وزارة امنية مثل وزارة الداخلية في العراق، وفي المنطقة ايضا، لكنه حولها الى وزارة انسانية، بقبضتين قويتين تنفذان قوانين العدل والحق والقضاء، فهو لم يتردد في صرف جوازات السفر وبطاقات التعريف العراقية لكل عراقي طلبها، سواء اكان معارضاً للدولة أو موالياً، من ذوي رموز النظام أو هم أنفسهم أن سمح لهم القانون بذلك، فضرب الاعرجي مثالاً رائعاً لرجل الدولة الذي ينظر للمواطن على أنه مواطن فحسب، حتى أن أسر رموز نظام صدام تجرؤا على طلب وثائقهم، وفوجئوا أن الرجل قالها بضرس قاطع: هذه حقوقكم المدنية لا استطيع أنا ولا أي شخص منعكم من مباشرتها باستثتناء القانون والقضاء! وهكذا تعامل مع الجميع بعين واحدة ومكيال واحد دون النظر الى صفحة الدين او المذهب او القومية او العشيرة او المدينة ، ولعل رفضه لقرار المساءلة والعدالة القاضي باقصاء 100 ضابط تقريباً من الداخلية كان مثال اخر على أن الرجل يقدم المهنية والولاء الوطني على كل الولاءات الفرعية. وحين نجح الاعرجي في تحويل الوزارة الى كتلة وطنية متآلفة تعمل كخلية نحل، تحقق ما كنا نسميه بأنه "معجزة" في أن تصل بغداد الى درجة الأمان، ولله الحمد فبغداد الحبيبة اليوم ترفل بالأمان والاستقرار مثلما ترفل الانبار والموصل والناصرية والكوت وغيرها من مدن بلادنا العزيزة. ان نجاح الاعرجي في هذه المنهجية وتطويره لاساليب عمل وزارة الداخلية، فضلاً عن تمكنه من الحد وبشكل كبير من الفساد والرشوة في الوزارة، بل وانهاء ظاهرة بيع المناصب القيادية الكبرى فيها، يعد دليلاً ملموساً في أن الرجل يملك خبرة وكفاءة مطلوبة لاستكمال مشروع بناء وزارة داخلية متكاملة وتحويلها لمؤسسة أمنية خدمية كفوءة. لذا فهي دعوة صادقة لأن يدفع بالرجل في هذه التشكيلة لهذا الموقع، وأن يتجاوز الفرقاء السياسيون عقدة التوزيع المحاصصي والفئوي، فمؤسسات الدولة أهم من الاحزاب والشخوص والقوميات، من اجل تعزيز مسارات المصالحة الوطنية التي هي أولى من أن يتحكم بمناصب كالداخلية اشخاص موتورون، أو ممن لديهم عقد واغراض نفسية بعيدة عن اهداف الوزارة الوطنية وقدراتها المهنية. ايها المعنيون بتشكيل الحكومات: قاسم الاعرجي مشروع وطني تصالحي حقيقي، وليس وزيراً عابراً في وزارات المحاصصة، فإستفيدوا منه، ومن تجربته الوطنية الفريدة، ولا تعميكم الاطماع، أو تشغلكم المناكفات والخلافات، فتتغافلوا عن النظر الى روعة ما فعل الرجل في فترة قصيرة جداً، عجز عن تحقيق مثلها جميع الوزراء السابقين !
*
اضافة التعليق