بغداد- العراق اليوم:
الفريق الطيار فلاح حسن، نائب قائد القوة الجوية العراقية
أريد أن أذكر للتاريخ تفاصيل الضربة الجوية في أواخر حزيران 2016 والتي قصمت ظهر العدو. كان فجر ذلك اليوم الحار في بغداد هادئاً حيث كنت في استراحة بعد أكثر من شهر من العمل الشاق أثناء عملية تحرير الفلوجة، لكن سرعان ما تبدد الهدوء حينما جائتني مكالمة هاتفية قبل الفجر بساعات. وحين رأيت اسم المتصل، عرفت بأن هناك شيئا حرجاً دعا السيد اللواء الركن سعد العلاق مدير الإستخبارات العسكرية أن يتصل بي في هذه الساعة المبكرة.
كانت كلمات اللواء الركن العلاق مقتضبة وتوحي بقلق كبير، ذكر لي أن الإستخبارات العسكرية العراقية رصدت تجمعاً لعصابات داعش في منطقة الجزيرة جنوب الفلوجة بالقرب من بحيرة الرزازة، يضم حوالي 400 سيارة وما زالت أرتال الدواعش تتوجه نحو الموقع من عدة أماكن.
التقرير الإستخباري الأولي ينص على أن نوايا الأرهابيين إما التوجه جنوباً نحو مدينة كربلاء المقدسة، أو غرباً نحو الحدود السورية، وقد يتجهوا شمالاً نحو الموصل. طلب مني مدير الإستخبارات التوجه فوراً إلى قيادة القوات المشتركة والعمل مع الأصدقاء في قوات التحالف لرصد هذا التجمع وتدميره.
جاءت المعلومات عن طريق استراق مكالمة لاسلكية لداعش قبل منتصف الليل من ذلك الموقع البعيد عن تواجد القوات الأمنية، أُرسلت على أثره طائرة استطلاع حيث واجهت مقاومة أرضية من قبل داعش، مما دعى الطائرة للرد على مصدر النار بصاروخين والانسحاب.
حسب طلب الإستخبارات العسكرية، أُرسلت طائرة أي أن- 32 للمكان. هذه المرة اتضحت نوايا الإرهابيين، حيث بدأت سياراتهم تتحرك جنوباً بإتجاه كربلاء، وفي محاولة لعرقلة تقدمهم استهدفت الطائرة أحد محاور الرتل بأربعة قنابل وأحرقت بعض العجلات.
في هذا الوقت، أثبتت الطلعات الإستخبارية بأن أعداد السيارات ما زالت في ازدياد، ونواياهم هي الانتقام بسبب الهزيمة التي لحقت بهم في الفلوجة وهدفهم الرئيسي حسب تقرير الإستخبارات وتحليلي الشخصي هو أنهم متجهين نحو كربلاء لتدمير العتبات المقدسة وإشعال حربٍ طائفية في كل أرجاء العالم الإسلامي ولكي يُفقدوا العراقيين حلاوة النصر الكبير في الفلوجة.
مدير الإستخبارات يعرف بأن طائرات قوتنا الجوية مشتبكة مع العدو في معارك أخرى، وأن هاتين الطائرتين لا تستطيعان مُعالجة هذا الكم الهائل من السيارات، كذلك حركة السيارات تشير إلى أن الرتل سيصل إلى مدينة كربلاء في غضون ساعات.
وما جعل الموقف أكثر حرجاً هو اتصال مدير الإستخبارات العسكرية بجهات أمنية وحكومية في محافظة كربلاء، وكان الرد بأن القوة الموجودة في المحافظة لا تستطيع لوحدها صد هجوم بهذا الحجم مما دعاه للاتصال بي للمساعدة. وعند سماعي لما ذكر بدأ القلق ينتابني.
بعد وصولي لقيادة العمليات المشتركة، أصبحت الصورة متكاملة حيث بدأت أرى الصورة التي التقطتها طائرات الإستطلاع. وتيقنت من مخاوف السيد مدير الإستخبارات العسكرية بأننا أمام قضية حرجة. فقررت التوجه لأصدقاءنا في قوات التحالف المتواجدين معنا في مقر قيادة القوات المشتركة، وطلبت منهم أن يساعدوننا في طائرات الإستطلاع الأمريكية القريبة من المكان.
كان رد العميد الأمريكي ريك أورايب من سلاح المارينز مشجعاً جداً ويبعث السعادة بالنفس. وما هي إلا لحظات حتى بدأنا نرى صورة مباشرة من طائرة الإستطلاع المسيرة الأمريكية لطبيعة المكان، ومواقع السيارات وعددها، حيث شاركني نفس الرأي بأن هؤلاء في مرحلة الإستعداد للهجوم ولا يبدوبأنهم نازحين أو هاربين. فقررنا إيقاف سير الرتل.
اتصل العميد أورايب بقائده اللواء جيري فولسكي، قائد الفرقة 101 المحمولة جواً، والذي كان في فترة الاستراحة وطلب حضوره بسبب هذه التطورات السريعة. وصل اللواء تمام الساعة الرابعة فجراً، وأخبرناه عن خطورة هذا التجمع وفي حال توجههم نحو محافظة كربلاء ستكون النتائج كارثية. كانت كلماتي واضحةً جداً حيث كانا يستمعان لي بتمعن.
استطعنا تحديد السيارات ذات الدفع الرباعي التي لا تتجاوز 15 سيارة، والتي كنا نشك بأنها تقل مدنيين ربما كانوا نازحين أو مأخوذين كرهائن من قبل داعش لكي لا تُوجه لهم ضربة جوية، أما بقية السيارات فجميعها بيك أب وشاحنات مسطحة تحمل أسلحة مضادة للطائرات، و وقود وذخائر وإمدادات لداعش. وهناك ثلاثة محاور تسير مسرعة جنوباً، لذلك طلبت من الأصدقاء في قوات التحالف التعجل بالأمر لأن الوقت ليس في صالحنا. إضافة إلى تمركز عدد كبير من السيارات في أحد الوديان، وكأنهم قوة إسناد بانتظار الإشارة للتحرك. فكان قرار الأصدقاء هو ضرب الأرتال المتحركة لعرقلة تقدمها.
وبعد اتصالات بين اللواء فولسكي وقيادة العمليات في سلاح الجو الأمريكي تم تحديد موقع طائرة مسيرة قريبة من المكان عائدة من تنفيذ واجب في الفلوجة، حيث أمر بتغيير مسارها نحو موقع أرتال داعش وتم ضرب السيارات المتقدمة مما أجبر الرتل على التوقف، ثم باشرت بتدمير حوالي 24 سيارة من الرتل. وبينما نحن نراقب ما يحدث عبر الكاميرات، رأينا الإرهابيين يتركون السيارات ويهربون باتجاه بركة مياه هرباً من القصف. كانوا يركضون بنشاط وكأنهم مُدربين على مثل هذه العملية وجميعهم بنفس السرعة والحجم مما يدل على أنهم مقاتلين. وكان بينهم عدد قليل يرتدي دشداشة بيضاء، أما البقية فيرتدون ملابس مقاتلي داعش.
وبعد تنفيذ الضربة وتوجه الطائرة بدون طيار نحو قاعدتها، وصل سرب من طائرات الأف 18 للمكان لإكمال المهمة. كان الإتفاق أن يستمر طيران التحالف بضرب الأهداف خلال ساعات الصباح الأولى ومن ثم تناط المهمة لرجال القوة الجوية العراقية. شعرت بالفخر الكبير بالعمل مع شراكائنا الذين استجابوا لطلبنا بأسرع وقت وقاموا بواجبهم على أحسن وجه .
منذ أن أخبرتهم بالأمر قبل الرابعة فجراً، كان الجنرالان واقفين على أقدامهم يراقبون الشاشات الكبيرة ويطلبون ضربات إضافية ويراقبون منطقة العمليات بحثاً عن مخابئ الإرهابيين. وأود أن أُشيد بهذا الالتزام والمهنية في أداء الواجب. قررت كتابة هذه القصة البطولية للتاريخ، فهذا الجنرال البطل وفريقه المناوب في العمليات المشتركة لهذه الليلة قاموا بعمل مشرف بحماية مدينة كربلاء المقدسة من هجومٍ إرهابي قد يجر المنطقة بأسرها لحروب أهلية وويلات ودمار. فنوايا الإرهاب واضحة جداً، وهي إشعال الفتنة وإضعاف وحدة المسلمين من خلال استهداف المراقد المقدسة والمساجد.
بعد انتهاء هذه المهمة المشرفة، كتبت رساله للحوزة الدينية في النجف وإلى الوقف السني وذكرت لهم بأن كل من يؤمن بالتعايش السلمي والتسامح في العالم يجب أن يُشيد بموقف شركائنا الأمريكيين، وبالخصوص موقف هذا الضابط الشجاع وفريقه الذين دمروا أرتال الفتنة ومنعوهم من تحقيق أحلامهم المريضة بتدمير مقدسات المسلمين.
وكما وعدتهم بأني سأستلم المهمة في الصباح، نفذت وعدي إذ بدأت في ساعة مبكرة بالاتصال بالقواعد الجوية والتهيؤ لإكمال المهمة. وبالفعل بدأ صقورنا الأبطال بإتمام المهمة وتدمير كافة آليات داعش، وقام طيران الجيش بنقل قوة من رجال العمليات الخاصة للمكان للتأكد من عدم وجود إرهابيين مختبئين، وإجراء مسح ميداني، والبحث بين الأنقاض عن أدلة وملفات تدلي للقوات الأمنية بمعلومات قيمة عن العدو.
كانت مهمةً موفقة ودرساً مهماً عن أهمية الشراكة وعن الالتزام المتواصل لحلفائنا الأمريكيين بدعم العراق في حربه ضد الإرهاب. وأنا على يقين أن مثل هذه الشراكة الصادقة ستنتصر على داعش وتحرر أرض العراق من براثن الإرهاب.