بغداد- العراق اليوم:
عدم التخطيط وسوء الادارة اخطر انواع الفساد
بعد ان وضحنا ماهية تهديم البنية الأساسية لمقومات الدولة جراء طريقة ادارة الحكم من الناحية السياسية وتأثير الديمقراطية المعوقة لبناء الدولة ، اصبح من نافل القول ان نتحدث عن بعض الأسباب المؤدية الى حالة اللادولة والتي فتحت الطريق لأركان الدولة الخفية ان تضرب أطنابها في أسس المؤسسات الحكومية لافشال بناء الدولة واقتصادها وخدماتها ، ومن اهم هذه الأسباب هي سوء التخطيط وسوء الادارة .
يتفق الجميع على مستوى الفساد المالي من سرقات وعمولات في مؤوسسات الدولة وعلى جميع الاصعدة وعلى عدة مستويات وهو ما سبب الكثير من الضرر لتجربة الحكم وإدارة الدولة وعادة ما يكون هناك نوعان من الفساد هما الفساد الفردي للموظف او المسؤول والنوع الثاني هو الفساد الممنهج الذي تقوم به الجهات السياسية لغرض تمويل نشاطها السياسي والحزبي والذي يتخذ أشكالا متعددة منها ماهو مشرعن قانونا لكنه مخالف للعرف الاداري اخلاقيا ومنها ماهو مخالف للقانون والعرف الاداري.
في كل الاحوال الفساد المالي هو جريمة يعاقب عليها القانون ومنها ما يصل الى حد جنائي او قد يقتصر على الجنحة كالاهمال المتعمد او ماشاكل ذلك .
اما الفساد الاداري الذي يجب ان نميزه عن الفساد المالي هو أشد وأقسى من الفساد المالي حيث ان تأثيراته تتجاوز سرقة المال العام او هدره الى ما هو اخطر من ذلك الا وهو تخريب اقتصاد البلد وتهديم البنية الأساسية لمؤسسات الدولة ،،وابرز صور الفساد الاداري هو وضع الشخص غير المناسب في موقع او مكان له تاثيره في إدارة مؤسسات الدولة وعدم مراعاة الاختصاص المناسب او الصفات الشخصية المناسبة في الشخص المرشح لادارة او قيادة اي مؤسسة لان هذا الاختيار سيؤدي بالتأكيد الى فشل هذه المؤسسة وبالتالي تهديمها او جعلها غير منتجة بل مستهلكة لموارد الدولة بدون اي ناتج إيجابي في منظومة الدولة . فالحكمة الصينية القديمة تقول ان تضع اسدا على رأس الف خروف خير من ان تضع خروفا على رأس الف أسد، بمعنى انه مهما تكون هذه المؤسسة قوية بنظامها وتاريخها وقواها العاملة لن يكون بامكانها الانتاج او اداء الخدمة العامة بدون ان تكون على هرم قيادتها شخصية كفوءة لها صفات قادرة على الادارة والقيادة والشواهد على ذلك كثيرة ابتداء من قيادة الوزارات حتى الأقسام والشعب البسيطة في المؤسسات التي فقدت أداءها الوظيفي بسبب القيادات غير الكفوءة والتي أدت الى انهيار الكثير من مؤسسات الدولة .
وهذا النوع من الفساد مشترك فيه جميع القوى السياسية تقريبا وجزء كبير منهم لا يعي حقيقة ان مايقومون به هو أساس لمنهج إفسادي لمؤسسات الدولة بل قد يعتبرونه حقا سياسيا او انتخابيا مكتسبا وكأن مؤسسات الدولة هي صفقة انتخابية تدفع ثمنها الأحزاب والقوى السياسية من عدد مقاعد كتلتها الانتخابية وأدى هذا الفهم الخاطئ لادارة الدولة الى الوصول الى حالة اللادولة . وَمِمَّا لاشك فيه ان الدولة العميقة او الكيان الموازي الذي سنأتي على شرح ملابساته في فصل خاص من هذا الكتاب قد لعب دورا بارزا في تغذية هذا الامر بل ودعم أشخاص من هذا النوع داخل كتلهم السياسية لتبوء المناصب بل وصل بهم الامر لدفع مبالغ مالية من اجل وصول ناس غير مؤهلين في ادارات عامة ومؤسسات وهيئات ووزارات من اجل تهديم الدولة بطريقة غير مباشرة ، بل وصل الامر بهم لحد ان يدفعوا ملايين الدولارات لفبركة قضايا وشن حملات اعلامية ورشاوى لمسؤولين حزبيين من اجل التخلص من اي شخصية كفوءة قادرة على العمل لبناء مؤسسات دولة وإخراجهم من مناصبهم بل وجعلهم عبرة لكل مخلص يريد ان يبني دولة في العراق.
من جانب اخر ان ما مر على العراق من فساد اداري خطير هو جراء عدم الخبرة من جهة وعدم تقبل الاستشارات لعدم ثقة المسؤول بنفسه من جهة اخرى، وهذا الفساد ناتج شقين سوء الادارة على المستوى التكتيكي وسوء التخطيط على المستوى الاستراتيجي بجميع مستوياته.
يمثل سوء الادارة حالة من التخبط في القرارات التي يقوم بها المسؤول الاداري تتضمن على سبيل المثال لا الحصر :-
١- قرارات خاطئة أساسا ينقصها البعد الستراتيجي او الرؤية الواضحة لهدف المؤسسة او نتيجة لعدم الفهم الكافي لطبيعة عمل المؤسسة وقد سبب هذا النوع من القرارات انحرافات واسعة لمسيرة بناء الدولة بل وقفت عائقا امام هذا البناء وقد تكون هذه القرارات تصب في صالح تكريس سلطة الفرد او الحزب او المكون لكنها بالتأكيد هدمت حلم الدولة بل قضت على ماتبقى من أنقاض الدولة بعد عام ٢٠٠٣.
٢-قرارات غير ممكنة التطبيق: الكثير من المسؤولين الإداريين يقومون بإصدار قرارات لايمكن تطبيقها في ارض الواقع وانما تبقى حبيسة الاوراق التي كتبت فيها وذلك اما ناجم عن عدم فهم المسؤول لعمله واعتماده على وعاظ السلاطين المحيطين به وإما يقوم بذلك لكي يكسب رأي عام وأصوات انتخابية ولايهمه بناء المؤسسة او المصلحة العامة.
وهناك نوع اخر من المسؤولين الحالمين والمقتدين بأسلوب ماري أنطوانيت في الادارة اي اذا لم يكن بالإمكان اطعام الناس الخبز فلياكلوا البسكويت !! فقد راينا الكثير من القرارات التي قد تصلح في بلدان مستقرة وناضجة سياسيا وإداريا ولكنها مستحيلة التطبيق في بيئة العراق الادارية والمجتمعية والسياسية فتبقى القرارات بدون تنفيذ ويبقى البلد عرضة للتخلف والتهكم من قبل الآخرين .
٣- قرارات نتيجة لضغوطات سياسية وشخصية ، فقد ابتلى العراق في الحقبة التي تلت ٢٠٠٣ بطريقة سخيفة لاختيار المسؤولين التنفيذيين تعتمد على العلاقات الشخصية والأمزجة الخاصة للقادة السياسيين وعلى الحزبية المقيتة بل تجاوز الامر ذلك للاسف الى حد بيع وشراء المناصب، ولم يكن للكفاءة والخبرة دور في الاختيارات الا ما ندر . نعم ممكن ان يكون للحزب السياسي حق في ان يرشح الموالين له لشغل مناصب إدارة الحكم ولكن يجب ان يعتمد في ذلك على معادلة خاصة وهي :(( الولاء xالكفاءة)). وليس المعادلة الاخرى التي هي ((الولاء+ الكفاءة)) . الفرق بين المعادلتين هو في الاولى عندما يفقد المرشح احد العنصرين لدرجة الصفر يكون ناتج المعادلة صفرا اي لايصلح وكلما قل احد الناتجين تقل نتيجة المعادلة. اما في الثانية فالمعادلة تعتمد على احد الطرفين دون التأثر بالطرف الاخر بمعنى انه لو كان احد المرشحين يمتلك ولاء كاملا اعمى للحزب ١٠٠٪ ولكن كفاءته معدومة احد الصفر فان تقييمه في المعادلة الاولى حاصل ضرب صفر x ١٠٠ = صفر اي لايصلح بينما تقييمه في الثانية يكون حاصل جمع ١٠٠+صفر =١٠٠
اي انه صالح جدا للمنصب
على العموم نتيجة لهذه الطرق في الاختيار اصبح المسؤول أسيرا لمتطلبات الأحزاب او الجهات او الشخوص الذين اتوا به لهذا المنصب فيقوم باتخاذ قرارات بناء على طلبات وأهواء هذه الجهات وبالتالي تؤثر على الأداء العام للمؤسسة وتكون ضد المصلحة العامة وتهدم أركان الدولة .
٤- قرارات الهدف منها ضرب قرارات مسؤول اخر لغرض تسقيط الاخر لأجل مصالح فئوية ضيقة او تنافس وخلاف شخصي ، حقيقة الامر ان عملية التغيير المستمر لادارة المؤسسات لها تأثير سلبي على اداء المؤسسة وقد اشاع أعضاء الدولة الخفية ان تغيير الإدارات واجب لكي يتم القضاء على الفساد متناسين ان المسؤول الذي يلي الاخر قد يكون اكثر فسادا وأسوأ ادارةً!! في اغلب الدول الناجحة يكون التغيير في المناصب السياسية تبعا لنتائج العملية الانتخابية بينما تبقى ادارات مؤسسات الدولة مستمرة في عملها ويتم تقييم دوري لادائها بطرق محترمة احترافية وليست مزاجية وبنمطية واحدة على الجميع، وهذا من أسس العملية الديموقراطية وليس التغيير العشوائي المستمر . لذلك عندما يأتي مسؤول جديد في ظل هذه العشوائية الادارية في الحكم يكون جل همه إثبات فشل المسؤول الذي قبله وبدلا من ان يسعى للاستفادة من خطوات سلفه وتطويرها يبدأ بنقض كل ما تم بناؤه ويصب جام غبائه على اي منجز لسلفه وكأن نجاحه الشخصي مرتبط باثبات فشل سلفه ويبقى البلد هكذا في دوامة القرارات المتناقضة والفكر الاداري الهدام الى ان نصل الهاوية وهذا هو هدف الدولة الخفية التي تغلغلت في جميع المفاصل .
اما النوع الاخر الخطير من انواع الفساد فهو عدم او سوء التخطيط ، ان الادارة السليمة لبناء الدولة تتطلب وضع خطط واضحة المعالم في جميع المجالات ويجب ان تكون هذه الخطط واقعية وضمن حدود الامكانات التي تتيحها موارد الدولة وفيها بعد نظر ستراتيجي لمستقبل الشعب وأجياله وان تاخذ بنظر الاعتبار البيئة المجتمعية المحيطة والتزامات البلد الدولية وان تحدد أولويات الدولة في هذه المرحلة. السؤال هل تم ذلك ؟؟ الجواب اكيدا كلا والأمثلة والشواهد عديدة وخير مثال على ذلك حجم المشاريع المتوقفة منذ حدوث الازمة المالية بسبب انخفاض أسعار النفط فقد دأبت الحكومات المتوالية على فتح كم من المشاريع دون ان تخطط لكيفية اكمالها ودون ان تضع خططا بديلة في حال حدوث اي طارئ، فمن اهم متطلبات الادارة الحديثة ان يكون للدول خطط بديلة على جميع الاصعدة وأن يتم حساب المخاطر لأي مشروع مهما كان نوعه ووضع العلاجات اللازمة في حالة حدوث هذه المخاطر لكن للاسف لم نر هذا النوع من الادارة في المؤسسات العراقية وقد حاولنا التأثير في مصادر القرار حينها ونبّهنا في مجلس الوزراء الى ان التوسع افقيا في فتح مشاريع دون حساب امكانية تعثر تنفيذها وعدم التركيز على مشاريع او قطاعات معينة قد يؤدي الى توقف جميع المشاريع وبالتالي اندثارها وضياع الأموال المصروفة عليها وهذا هو اخطر شيء على بنية الدولة . والطامة الكبرى في العراق هو أنه لم يخطط احد ماذا يمكن ان يحصل اذا انخفضت أسعار النفط وماهي البدائل الاقتصادية لادارة أمور الدولة بل ماهو مصير المشاريع المستمرة والكثير من الاسئله الاخرى؟؟ . نحن ليس في إطار وضع اللوم على وزارة التخطيط او غيرها بل اللوم يقع على طريقة ادارة الحكم من قبل الطبقات السياسية من جهة ويقع من جهة اخرى على العقلية الكلاسيكية للمسؤولين عن ملف التخطيط في البلد والتي لاتنسجم مع التغيرات الدراماتيكية في الإطار السياسي لحكم البلد او الانفتاح الاقتصادي المفروض في ظل النظام الجديد وايضا الظروف المحيطة بالبلد من كل الجوانب.
ان غياب الأفق التخطيطي حتى لو كان بنية حسنة أدى الى ضياع الموارد وهدر الأموال وتفويت فرصة بناء الدولة على أسس صحيحة ناهيك عن تدخل الدولة الخفية لتخريب التخطيط المفترض وإشاعة جو من الفوضى الادارية في مؤسسات البلد. فَلَو نظرنا الى مديريات التخطيط في الوزارات والمحافظات لوجدنا ان دورها محدود وإمكاناتها ضعيفة واهميتها النسبية قليلة مقارنة بالدوائر الاخرى وايضا لوجدنا غيابا تاما للتنسيق بين دوائر التخطيط فيما بينها وانعدام حالة التكامل التخطيطي داخل هيكل الدولة الذي أدى بالتالي الى ان تتعامل كل وزارة او مؤسسة او محافظة وكأنها دولة مستقلة داخل الدولة وللاحظنا التضارب الواضح في الخطط الموضوعة ان وجدت.
هذا الامر ينطبق على الجانب التكتيكي والجانب الستراتيجي في ادارة الدولة ، فغياب التنسيق بين مؤسسات الدولة وعدم التكامل فيما بينها حتى في داخل المؤسسة الواحدة احيانا أدى الى فوضى ادارية خلخلت كيان الدولة وأفقدتها الاحترام اللازم داخليا وخارجيا اداريا واجتماعيا ومؤسساتياً فقد لاحظنا على سبيل المثال لا الحصر غياب التنسيق بين الامانة العامة لمجلس الوزراء والوزارات المعنية ووزارة التخطيط في موضوع تعليمات تنفيذ العقود الحكومية والوثائق القياسية اللازمة والتداخل غير المدروس فيما بينهما وفتح باب الاجتهاد في التفسير او على الأغلب رمي الكرة في الملعب الاخر لتجنب اتخاذ قرار وبالتالي تعطيل عمل المؤسسات والدخول في جولات من المراسلات العقيمة التي لا تمت لأصول بناء الدولة بصلة.
اما في إطار الرؤية الستراتيجية فان غياب التخطيط أدى الى ان يدخل البلد في متاهات ادارية واقتصادية لايستطيع الخروج منها وفي هذا المجال هناك سؤْال واقعي الا وهو ماهي العقيدة الاقتصادية للعراق؟ قد يأتي احد المنظرين ويعطي محاضرة عن ذلك ومايجب ان تكون ، لكن في الواقع لا احد يعرف ها هو مذهبنا الاقتصادي . هل انضمامنا لمنظمة التجارة العالمية مدروس وما هو الذي كسبناه من ذلك ؟ لماذا لا يوجد منهاج استيرادي او منهاج تصديري في البلد ؟ أين دور المخطط الستراتيجي ؟ هذه الاسئلة نطرحها عسى ان تنفتح قريحة البعض للرد عن هذه التساؤلات من باب العلمية والمصلحة العامة.
اغلب السياسات الإعمارية والاقتصادية والنقدية في البلد تفتقر الى التخطيط المسبق والبعد الستراتيجي في الرؤية المستقبلية وضعف التكتيك الآني في التنفيذ مما أدى الى انحدار اقتصادي وعدم ثقة المجتمع الدولي بالوضع الاقتصادي والمؤسساتي بالعراق وانخفاض معدل التعامل الجاد مع البلد وحصره ببعض التعاملات ذات البعد السياسي الداعم للسلطة الجديدة بعيدا عن المهنية والثقة بوضع البلد المؤسساتي . من الطبيعي ان فقدان هذه الرؤى وفقدان التخطيط المسبق للتكامل بين الادارات الحكومية مركزيا ومحليا أدى الى فقدان مبدأ الدولة في شتى المجالات وأدى الى ان يكون البلد عبارة عن سلطات ادارية مبعثرة وضعيفة سهلت المهمة على اقطاب الدولة الخفية للسيطرة على مجريات الامور وتوجيهها نحو إنهاء حالة الدولة والاستفاضة بحالة اللادولة ودفع الامور بالبلد الى الهاوية وجعل انتظار المجهول هو الروح السائدة لدى صناع القرار دون ان يحركوا ساكنا لإنقاذ مايمكن انقاذه. اعتقد ان القارئ الكريم اصبح الان واعيا بخطورة سوء الادارة وعدم التخطيط المسبق كوجه من أوجه الفساد بل وأشد انواع الفساد الذي ينخر جسد الدولة العراقية لكي يحقق مآرب الخونة والجهلة والفاسدين لاسقاط تجربة الدولة وجعل الشعب يؤمن بان الدولة الظالمة في الحقبة البائدة افضل من اللادولة في ظل الديمقراطية والحريات وهذا ما يحز في قلب الشرفاء الذين ضحوا في سبيل التخلص من نير الدكتاتورية البائدة ليروا عراقا يحكمه ابناؤه بطريقة حكيمة تبني دولة حديثة نفتخر بها بدل من حكم القرية وحكم الفرد لكن للاسف بدأنا في خسارة المعركة ويجب الانتباه لذلك وبذل الجهود لاستعادة زمام المبادرة لبناء دولة في العراق .