بغداد- العراق اليوم:
لا اعتراض أن توزع الكتل الفائزة والتي سيناط بها تشكيل الحكومة المقبلة المناصب الرئيسية والخدمية والتنفيذية فيما بينها، فهذه هي الديمقراطية وهذا معنى حكومة منتخبة يفرزها مجلس النواب، فبالنهاية العمل الديمقراطي يتيح للأحزاب الفائزة أن تحتل مواقع تنفيذية لغرض تطبيق رؤيتها السياسية وبرنامجها، كي تمنح المواطن الفرصة في تقييم عملها ومن ثم الحكم عليها مرةً أخرى حين يصار الى أخذ الرأي الشعبي في الانتخابات. وليس بدعًا من القول أن الأحزاب الفائزة في كل الدول الديمقراطية هي من تتولى مهام الدولة في فترة انتخابها، لذا تأتي الدعوات الغريبة من البعض أن تتنازل التحالفات الفائزة عن مقاعدها الحكومية في التشكيلة القادمة تحت مسميات التكنوقراط وما شابه ذلك، وهي في الحقيقة حقائب حزبية مغطاة بهذا الغطاء السحري الجذاب، يراد منها شيء أخر، وقد تأكد للعراقيين بالتجربة كذب وزيف هذا الغطاء، فلا تكنوقراط رأينا ولا هم يحزنون! ورغم ذلك فنحن نؤمن بحق الأحزاب التي نالت ثقة الشارع العراقي رغم محدودية اعداد المنتخبين، إلا أن هذه الأحزاب مطالبة في ذات الوقت، أن تحترم خصوصية الدولة، وتحافظ على إطارها العام، وتجنب تسييس الملفات المهمة، وتبتعد عن سوق التلاعب بالثوابت الوطنية، تحت مسمى الاستحقاق الانتخابي، أو الحق السياسي، فالأمن الوطني والقومي خط أحمر من الخطوط التي يجب عدم المساس بها، وتخرجها الدولة الديمقراطية من حلبة التنافس السياسي، فهذا الملف يتعلق بأمن الناس وأرواح المواطنين وقوة الدولة وهيبتها وسمعتها. لذلك ترى مثلاً أن الرؤساء في الولايات المتحدة على تعاقبهم واختلافهم السياسي الحاد، دائمًا ما يحيدون المؤسسات الأمنية عن هذا الصراع، بل أن الرئيس الأمريكي السابق اوباما أبقى على وزير دفاع جمهوري لسنوات طوال في هذا الملف رغم أنه يتقاطع مع منهجه السياسي، لكن المصلحة الأمنية الأمريكية فوق المصالح الحزبية. هذا المثال وغيره من الأمثلة يمكن أن تؤسس لتناول الشأن العراقي وما يجري الآن من عملية شد وجذب في الدولة العراقية، من حيث توزيع المناصب الحكومية والتأسيس للدولة العراقية بعد انتخابات 2018، وما يجري فيه من حديث عن إعادة بناء شكل الدولة بمؤسساتها ووزارتها حسب الاستحقاق الانتخابي، وأوزان الكتل السياسية الفائزة على تقاربها. ومع بدء عمليات حرق المراحل التي أصحبت لا تلوي على شيء، سوى الاقتراب من انجاز شكل تحالف جديد يتولى تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، نرى أن البعض بدأ برفع سقف مطالبه وطموحاته، وحتى صار لا يقف عند حد أو طموح في محاولة للكسب السياسي والانتخابي من الآن، لذا فأن مثل هذا النوع من التفكير خطير، وأن جرت الاستجابة له فأننا ازاء كارثة حقيقية، ستجرنا الى ويلات أخرى، فمعنى ذلك أننا ازاء عملية تحاصص داخل المؤسسات الأمنية وذات البعد القومي والوطني، وأن هذه المؤسسة عرضة للتلاعب السياسي الذي سيدمر بنيتها الاساسية، ويفرط بمنجزها الوطني الكبير الذي حققته. هذا الحال يدفع الوطنيين واصحاب الحس العالي بالمسؤولية الوطنية والاخلاقية لاطلاق أصواتهم دفاعاً عن مكتسبات الشعب العراقي، التي حصل عليها بدماء ابنائه، ويطلقون حملة لغرض صيانة المؤسسات المهمة من خطر التصدع السياسي الذي يراد له أن يطالها. ولذا فأن تحصين مؤسساتنا الأمنية بالدرجة الأولى، هو الأهم من كل نتائج العملية الانتخابية على أهمية هذه النتائج، فكيف يسمح مثلاً أن يصار الى تقاسم منصب مهم مثل منصب رئيس جهاز مكافحة الأرهاب وهذا الجهاز الذي لا يمكن أن تسأل عنه أي عراقي الا واجابك أنه جهاز البطولة الذي اسسه ورعاه الفريق أول الركن طالب شغاتي وضباطه ومنتسبوه الأشاوس، هولاء الرجال الذين وضعوا العراق وحده نصب أعينهم، وداسوا على الموت، ولم توقفهم أي تحديات مهما كانت. حتى غدا الجهاز علامة عراقية، وماركة مسجلة في الاداء المهني والشرف العسكري، لينال رئيسه الدكتور طالب شغاتي اعلى وسام أمني للسلام حول العالم، وتحتفي به اكبر الأكاديميات العسكرية العالمية، وتفرد كبريات الصحف العالمية صفحات وتغطيات مطولة لهذا البطل ولجهازه الأشم، هل يعقل أن يفرط به لمجرد رغبة سياسية من سياسي هنا او كتلة هناك. هل يعقل أن يفرط بهذا البناء الوطني الشامخ ويهد لمجرد استحقاقات ما انزل الله بها من سلطان!. كذلك فأننا أزاء تجربة فريدة في وزارة الداخلية العراقية، التي حولتها يد الوزير الكفوء والوطني الغيور قاسم الأعرجي الى مؤسسة وطنية تتلمس حاجات الناس، وتبحث عن مظالمهم كي تزيلها وترفعها عنهم. وقد شهدت الوزارة في عهده ولا تزال تشهد عمليات هيكلة حقيقية، واعادة بناء مؤسسي منتظم، فضلاً عن تصاعد وتيرة الانجاز الذي أصبح الجميع يشيد به، ولا ننسى دور هذا القائد في قيادة معارك التحرير ضد داعش، ومدى الفهم الذي كانت عليه وزارة الداخلية في فهم طبيعة المعركة، وتحدياتها، حيث وبشهادة الجميع، كانت لقوات وزارة الداخلية البطلة الصولات والجولات في اقسى واشد المعارك عنفاً، وكذلك فأن الوزارة ذاتها نجحت في تثبيت هذا الأمن، وأعادة بناء السلم الاجتماعي عبر دورها الواضح في هذا المجال. أضف الى ذلك نظافة اليد والضمير الوطني لهذا الرجل الذي وضع مبادئ الوطنية والعفة والنزاهة فوق كل مبدأ، ضارباً مثلاً سامياً في التسامح الوطني والفهم العميق لمسؤوليات رجل الدولة وتعامله مع المواطنين، فهل يستحق مثل هذا الرجل أن يبعد مثلاً عن منصب بدأ فيه مشواراً اصلاحياً كبيراً لمجرد رغبة في الاستحواذ ؟. ان للأعرجي مشروعاً امنياً بدأه، ويجب ان يكمله كي يتحقق السلام الإجتماعي والأمني كاملاً في هذا البلد الذي ذاق مرارة التناحر، والإصطراع الدموي. كما لا يفوتنا التذكير، بدور القائد المثقف والرجل المعرفي الاستاذ مصطفى الكاظمي رئيس جهاز المخابرات الوطني العراقي، الذي نهض بمسؤوليات هذا الجهاز، وادار دفته بعد أن كان مجرد أسم غير فاعل، أو غير مفعل لتأتي عقلية الكاظمي الواعية والمدركة والخبيرة، لتحول هذا الجهاز الى أكبر مؤسسة معلوماتية أمنية في الشرق الأوسط، ولتسثمر امكانات هذا الجهاز وقدراته البشرية الهائلة في عمل منظم اكتسب احترام الجميع واهتمامهم. حتى أصبح جهازنا الوطني مرجعًا في معلوماته، ومركز استشارة اقليمي فاعل في ما يتعلق بمكافحة الأرهاب ومنظمات الموت الدموية. وبعد كل النجاحات الأمنية العظيمة التي حققها جهاز المخابرات الفتي برئاسة الكاظمي، وما تقدم من خطوات علمية وانسانية مدروسة في انشاء جهاز مخابرات مختلف عن كل الأجهزة المخابراتية في المنطقة، جهاز يدافع عن أمن الوطن والمواطن، ويعتمد حقوق الإنسان كمنهج يؤمن به ايماناً حقيقياً لا شعاراتياً فحسب، وبعد كل هذا المتحقق، يأتيك هذا الحزب او ذاك بحجة الاستحقاق الانتخابي، فيستولي على هذا الجهاز، ويقضي على كل ما تحقق بالضربة القاضية، أيعقل ان يفرط العراقيون بهذا المنجز الوطني الكبير، وهل يحق أن يدس البعض انفه في هذه المفاصل التي تتعلق بأمن الدولة وهيبتها وقدراتها وأمن مواطنيها، أنها دعوة صريحة لغرض تحييد هذه المؤسسات عن الاستحقاق الانتخابي، أو السطوة السياسية، قبل ان يفكر البعض بالإستيلاء عليها والحاقها بممتلكاته، فالبلاد لاتتحمل المزيد من التسييس الذي لن ينتج الا الخراب في ثنايا الوطن المبتلى.
*
اضافة التعليق