بغداد- العراق اليوم:
ما يحسب لهذه الحكومة وما يمكن أن يعد انجازًا بحق على المستوى السياسي انها حكومة استطاعت مسك العصا من المنتصف في صراع الاقطاب المستعر الذي تشهده منطقة الشرق الاوسط، لا سيما بين الجمهورية الاسلامية في ايران، والمملكة السعودية، هذا الصراع التأريخي القائم على تنافس لزعامة العالم الاسلامي الذي تعتقد السعودية، أن ايران تسلبها هذا الحق المتفرد، ورغم أن حكومة العبادي يمكن عدها " حكومة تحرير" وطني، نظراً لانشغالها طوال فترة استيزازها بملف تحرير الأراضي المغتصبة من الدواعش، لكن هناك شخصيتين كانتا اكثر من غيرهما معنيتين بالعصا ومقبضها الوسطي، حيدر العبادي بإعتباره رئيس الدولة العراقية التنفيذي، وقاسم الأعرجي بموقعه كوزير لأمن الدولة وأمانها. إذ يمكن الاشارة الى دورهما الذي لعباه باتقان ودقة سياسية عالية، قد قادت بما لايقبل الشك الى تفكيك التداخل المصالحي، والاشتباك العاصف، حد أنهما استطاعا ان يوقفا هذا الصراع، بل وان يحولا العدوين اللدودين الى متفقين في جزئية القضاء على تنظيم داعش واستئصاله من العراق نهائياً. لقد عرف العبادي ووزير داخليته قاسم الأعرجي بحسهما السياسي النابه، ان انزلاق العراق في السابق نحو محور ما، قد قاد الى كارثة، لاسيما وأنه لم يكمل بناء قدراته التسليحية والأمنية، ولم يحصن حدوده تماماً، فكان وقوفه علناً في ذلك المحور، خطأً استراتيجياً فادحاً، أدى الى الانقسام الطائفي العميق، ثم قاد الى التدخل المحوري في العراق، والسماح لداعش بكسر ما اعتقده الخط الممتد من طهران الى بيروت. ودفع العراق لهذا ثمناً باهظاً، من الدماء الزاكيات ومليارات الدولارات، فضلاً عن ملايين النازحيين والمهجرين، ومذابح طالت الاقليات وجميع ابناء الشعب العراقي النبيل. ما لعبه العبادي والأعرجي، هو سياسة الانفتاح الدقيقة على الآخر، واضعين مصلحة العراق العليا فوق الاعتبارات كلها، فلا عداء على أساس غير مصلحة العراق، ولا صداقة الا على اساس مصلحة البلاد. ولذا كان الاقتراب الدقيق من المحورين يتم عن وعي ودراية وحسن تقدير, فالعراق في معركة كبرى مع داعش، وليس من الحكمة أن يزج بنفسه في أتون حرب أخرى لا شأن له بها، ولا مصلحة. بل من العقل ان يوظف قدرات المحورين المتضادين في دعم جهوده لاقتلاع هذا الوحش الذي لم يترك بقعة من الأرض وطأها الا ودنسها، كما لن تتوقف اذرعه عن الوصول الى ابعد النقاط في العالم، فكيف بدول الجوار ؟! لقد كان الانفتاح السياسي والدبلوماسي من قبل العبادي والاعرجي على السعودية، خطوة فيها الكثير من المخاطرة وعدم ارتياح طيف سياسي واسع في العراق وخارجه من خطورة هذه الخطوة الاستفزازية للطرف الأخر المشتبك مع هذه الدولة في اليمن وسوريا والبحرين ولبنان ودول افريقية وآسيوية متعددة، لكن الجواب العراقي كان اكثر حكمة ووعياً لهذا كله، فهو تأكيد على أن الخلافات واهية، وأن التدافع في المنطقة لن يخلف غير الدمار، وأن اللغة المُثلى التي يجب ان يتحدث بها الجميع، هي مصلحة بلدانهم، وبالتالي مصلحة العراق مقدمة على أي مصلحة أخرى، وأن العداء الذي في ظاهره عميق مع السعودية مثلاً هو نتاج تفسير متشدد هناك، وأن العراق دولة مستقلة تماماً، لا تربط مصالحها الا بمصلحة شعبها، ولا تعمل الا وفق تلك السياسة، لكنها في الوقت ذاته لا تفرط بعلاقات ستراتيجية، ومتينة وتاريخية مع الجوار، لاسيما الجمهورية الاسلامية في ايران، التي وقفت مع شعبنا في أحلك الظروف، وأشدها عتمة، وهي بحق اكبر داعم حقيقي لعراق ما بعد صدام، إذ لعبت دوراً مهماً في دعم الاستقرار السياسي، وايصال البلاد للحظات تاريخية في عملية التحول المنشود. هنا كانت حكمة الرجلين تتجلى يوماً بعد أخر، وصبرهما يتجاوز بروبغندا الطرفين الاعلامية التي تتهم وتكيل الشتائم، ولكن الاعرجي والعبادي يواصلان تقديم درس دبلوماسي مهم في بناء شكل التحالفات، ونزع فتيل حرب وشيكة كانت لو وقعت – لاسمح الله- فأنها ستحرق العراق الذي كان مشغولاً بمكافحة داعش بكل قوة وبأس. أن التقارب العربي – العراقي ليس موجهاً بالضرورة ضد التقارب العراقي – الايراني، هذا ما يقوله العبادي والاعرجي، بل هو لحظة وخطوة وجسر للوصول الى صناعة تقارب عربي ايراني عبر البوابة العراقية التي تريد لهذه المنطقة ايقاف الاشتباك المفضي الى العدمية، والانتقال الى مرحلة بناء المحور العربي- الاسلامي القائم على حفظ مصالح الجميع، ومغادرة لغة التفكير والطائفية ورفض الأخر. ان جهود رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي ووزير الداخلية قاسم الأعرجي كبيرة، وواضحة ورسائلهما كانت تصل للجميع، بأنهما منفتحان على الجميع وفق قاعدة المصالح المشتركة، والأمن المشترك، والمصير الواحد في منطقة تتأثر ببعضها البعض بشدة، في نسيج ديموغرافي واثني وقومي وطائفي واحد تقريباً. هذا النجاح الذي سجله الرجلان للعراق يمنحهما بصراحة شديدة، علامة تميز على اقرانهما السياسيين العراقيين الذين حاولوا سابقاً الوصول الى هذا المفترق، لكنهم عجزوا لقصور ذاتي او تقصير منهم ايضًا. فشكراً لدبلوماسية المصالح العراقية التي جنبت العراق والمنطقة خطر الاشتباك وستفضي قريبًا على اعادة العراق كلاعب اساس في المنطقة برمتها، أن لم يكن العراق قد دخل الملعب بالفعل في هذه الفترة الذهبية من علاقاته العربية من جهة والايرانية من جهة أخرى. وها هي الاخبار تأتي لنا بخبر لم يتأكد لدينا بعد، عن وساطة عراقية للتصالح بين السعودية وأيران.. واذا صحت هذه المعلومة، هل سيتوقف الماضغون عن مضغ حروف اسمي العبادي والاعرجي في علكة الصباح، وعلكة المساء؟
*
اضافة التعليق