بغداد- العراق اليوم:
الديمقراطية العرجاء أجهضت بناء الدولة
تعتبر الديمقراطية أحد النظم السياسية التي تدار من خلالها البلدان. وتعتبر أثينا تاريخياً أول من نحتت مصطلح الديمقراطية بشكله الإغريقي اليوناني القديم، ثم تطور هذا المفهوم على مر العصور، وارتقى معنى الديمقراطية في القرن الثامن عشر، وتم توطيد قيم الديمقراطية، ومفاهيمها، بحيث لاتكون عبارة عن انتخابات او تمثيل شعبي بل تتجاوز ذلك الى منظومة متكاملة لادارة البلدان والشعوب، تستند الى فكرة شرعية الدولة، والمساواة بين أفراد المجتمع وسيادة القانون، وفكرة المسؤولية، والمسائلة، والشورى، وتحريم العقاب الجماعي، ومنح حرية التنقل والسكن والعمل وتطبيق مباديء الثواب والعقاب والرحمة لبناء دولة قائمة على اللاعنف ..
لا شك ان مفهوم الديمقراطية مفهوم راقي ينسجم مع حرية المجتمعات والافراد لاختيار نمط حياتهم من خلال النظام السياسي الذي يدير بلدانهم، والذي يدار من قبل أشخاص تم اختيارهم من قبل الشعب. لكن في تطبيقات هذا المفهوم هناك الكثير من المعطيات التي يجب الالتفات اليها، ومن أهمها، ان يكون المجتمع مهيأ لمرحلة الاختيار المباشر من خلال التثقيف التدريجي لهذا المفهوم، خصوصا اذا كان يرزح تحت نير الدكتاتورية والفردية لمده طويلة.
كذلك يجب تهيئة الفرد داخل المجتمع، وتثقيفه للعملية الديمقراطية، وكيفية الانتخاب، وليس فقط دفعه لممارسة حقه الانتخابي بل كيفية الاختيار، ومعايير انتقاء الاصلح لتمثيل الشعب، وليس على أساس اثني او طائفي او قومي. نعم ممكن ان ينتخب الفرد على أساس حزبي، وهو من صلب العملية الديمقراطية الانتخابية، ولكن ايضا يجب التثقيف حول كيفية، ومعايير الانتخاب داخل الحزب الواحد.
الذي حصل في العراق كان، هو التثقيف المجتمعي للمشاركة في الانتخابات وممارسة الحق الانتخابي، وتحشيد الجماهير للذهاب لصناديق الاقتراع بدون ان يكون هناك برنامج محدد لاشاعة ثقافة الانتخاب، يعتمد على اختيار الاصلح، او الاكفأ، او صاحب البرنامج الانتخابي الواضح، بل على العكس بدأت القوى السياسية بعمومها، ومرشحيها على وجه التخصيص، بحملات انتخابية قائمة على أسس مذهبية او قومية او حزبية او مناطقية او عشائرية، الغاية منها دفع الناخب لاختيار قائمة معينة، او شخص معين .
في حقيقة الامر هذا استدراج للناخب، وممارسة للضغط العاطفي والنفسي على خيار الاعم الأغلب من الناخبين، خصوصا ان نسب المشاركة في الانتخابات العراقية عالية جداً اذا ما قورنت بالتجارب الانتخابية الاخرى، مما يعني ان النخب التي تستطيع الافلات من هذا الضغط والاختيار على أساس عقلي منطقي ستكون نسبة تأثيرها قليلة جداً، ولا تستطيع احداث تغيير ملحوظ بنتائج الانتخابات مما يودي الى نجاح خطة القوى السياسية المهيمنة في استخلاص نتائج انتخابية تتماشى مع طروحاتها القومية او الطائفية او غيرها، وهذا يؤدي بالنتيجة الى فوز مرشحين منفذين لهذه الاطروحات، وبالتالي جر الشعب والمجتمع بعقله الجمعي الى تخندق طائفي او قومي، أو ما شاكل ذلك ..
ولو رجعنا الى الديمقراطية كمفهوم وتطبيق نرى ان المجتمعات التي عانت فترات من الحكم الدكتاتوري تحتاج الى فترة انتقالية قبل ان تبدأ بالتحول التدريجي الى الديمقراطية. فليس من المعقول ان تكون الشعوب حقل تجارب لنظريات سياسية مستوردة من الخارج دون الالتفات الى طبيعة التكوين الاجتماعي والأبعاد التاريخية في حياة هذه الشعوب، وفي هذا الإطار يقول كلود أكي:
(( ليست الديمقراطية شيئا يصنعه شعب لآخر بل يجب ان يصنعه الشعب لنفسه وإلا لن يحدث ))!!
على العموم قد حصل ماحصل في العراق، فبعد اكثر من نصف قرن من الحياة السياسية الفردية والدكتاتورية، وتحت ظرف الاحتلال العسكري المباشر من قبل دول اجنبية، تم تنظيم استفتاء على الدستور الذي كِتب على عجالة وبطريقة مربكة قائمة على أسس عاطفية، سياسية اكثر منها منطقية سياسية، فنتج دستور جامد مليء بالألغام، غير قابل للتبديل او التعديل، بحيث لم يضع كاتبه اي سبيل منطقي عملي لآلية تعديله. والسؤال هنا لو عملنا استبيان على المصوتين بنعم او لا على الدستور الذي فاز باغلبية، ووجهنا السؤال الآتي لهم :
هل قرأت الدستور قبل ان تصوت عليه؟
هل فهمت فقرات الدستور ؟
هل فهمت كيفية الالية التي يمكن للشعب تغيير الدستور بواسطتها؟
لماذا صوَّت بنعم او لا؟
في رأيي المتواضع اننا سنصدم عندما نحلل الاجوبة، لاني قمت بأخذ عينة صغير من ١٠٠ شخص من مختلف الطبقات المجتمعية، فكانت الاجوبة على النحو الآتي :
٧٤٪ من العينة لم تقرأ الدستور قبل ان تصوت عليه !!
٦٠٪ من الذين قرأو الدستور، قد فهموا جميع فقراته، أي ١٥٪ من العينة.
اما جواب اخر سوْال فكان ان ١٠٠٪ من العينة التي صوتت بنعم او لا ، فإنها صوتت لأسباب سياسية او طائفية ليس لها علاقة بفقرات الدستور، وانما استجابة لتوجه عام لطائفته او حزبه!!
قد تكون العينة صغيرة بالنسبة للمجتمع السكاني لاتفي بالأغراض البحثية، ولكنها تعطي مؤشراً عاماً لأغراض هذا الموضوع.
بعد ذلك تمت اول انتخابات وبطريقة القائمة المغلقة التي أعطت دليلاً على ان النظام الجديد يحاول ان يكرس أمرين:
الاول، تكريس الانقسام السياسي والمجتمعي، بحيث اصبحت الانتخابات المزعومة عبارة عن قائمة شيعية ينتخبها الشيعة، وقائمة سنية ينتخبها السنّة ، وقائمة كردية ينتخبها الكرد.
والامر الثاني، هو استغفال الناخب، خصوصا ان الشعب لم يمارس تجارب انتخابية، فقامت الطبقة السياسية الاولى بوضع اسماء داخل القوائم دون ان يعرفها الشعب، بل تم وضع تسلسلات حسب رغبة القائمين على ترتيب القائمة، وبمحاصصة اضافية بين الأحزاب ضمن المكون الواحد، بحيث ان هناك من ينتخب قائمة معينة لأسباب طائفية او قومية، وهو لايعرف ان صوته ممكن ان يؤدي الى فوز شخص بتسلسل معين، قد يكون الناخب يعرف بأنه غير مؤهل، لكن لم يتسنَّ له الاطلاع على الأسماء او التسلسلات، فكانت عملية تقسيم مجتمعي لمعرفه حجم كل مكون اكثر منها عملية انتخابي! !
اذا البداية كانت خاطئة ومبنية على أساس هش وقاتل لعملية بناء الدولة، فقد أسس لنظام المحاصصة، ولنظام المنافع الفئوية الضيقة، بحيث اصبحت ديمقراطية هجينة تُمارس في الحياة السياسية، لكنها إدت الى بناء غير سليم. حتى بعد ان تطورت العملية الانتخابية باتجاه القائمة المفتوحة، بقيت تحت مظلة الطائفية والقومية.
نعم قد يكون مقبولا ان تكون الانتخابات تحت مظلة احزاب وكيانات وقوى سياسية تمتلك رؤى واستراتيجيات وتكتيكات لبناء دولة وأدارة حكم، لكن الغير مقبول بتاتاً، ان تكون تحت المظلة الاثنية او المذهبية . فادت بالنتيجة الى تجذير الانقسام المجتمعي على حميع المستويات الذي أدى بدوره الى الفشل في بناء أسس الدولة.
وأصبح السياسي او المسؤول الحكومي الذي أتى من نفس الرحم السياسي القائم على أساس الانقسام المجتمعي عباره عن منفذ لسياسات حزبه وطائفته، ويكون عمله منصباً على كيفية كسب أصوات اكثر في الانتخابات القادمة.
هناك امران يجب مناقشتهما عندما نتحدث عن التجربة الديمقراطية:-
الاول هو مفهوم الديمقراطية، وهو يعني هل ان الديمقراطية طبقت بشكلها الصحيح الكامل، وليس عملية الانتخابات فقط؟
لان الديمقراطية ليست فقط نظاماً انتخابياً، إنما هي نظام متكامل، لادارة الدولة.
ومن اهم أسسه، هو ابعاد ادارة المؤسسات العامة التي دون الوزارات السياسية عن نتائج الانتخابات ، انما تدار بواسطة موظفين خدمة عامة، يحكمهم الولاء للمؤسسة، ويتنافسون في إطار الأداء المتميز والإنتاج في العمل.
الثاني هو البيئة التي تطبق فيها الديمقراطية، ومدى استيعابها لمفهوم الديمقراطية، فان تطبيق الديمقراطية في بيئة غير مهيئة، لذلك سيأتي بنتائج عكسية تؤدي الى ضرر مجتمعي، جراء سوء الفهم المتولد لدى المجتمع.
بصراحة مطلقة، وبعيداً عن جلد الذات، ومن خلال مراقبة مكثفة، وتجربة في هذا الملف (مع العلم ان تجربتي الانتخابية كانت ناجحة، وبقائمة مفتوحة، ولدورتين انتخابيتين، ولدوائر متعددة، حيث اني في الدورتين تجاوزت العتبة الانتخابية، وفي انتخابات ٢٠١٤كنت الثالث على بغداد من حيث الأصوات، بما يزيد عن ٧٩ الف صوت).
ارى ان الديمقراطية في العراق لا ينطبق عليها أي من الامرين السابقين، فهي لم تطبق بمفهومها الحقيقي الصحيح، ولم تكن البيئة مناسبة، او مهيئة بما يكفي لاستيعاب العملية الديمقراطية، لذلك أطلق عليها مصطلح الديمقراطية العرجاء، اي التي لاتستطيع السير بصورة صحيحة للوصول الى الغاية الأساسية المرجوة من تطبيقها.
السبب في ذلك هو ان القوى العالمية استغلت حالة النقمة لدى الشعب ضد نظام البعث، والويلات التي ذاقها من جلاوزة النظام، وضنك العيش جراء الحصار الاقتصادي، كما استغلت الشبق السلطوي لدى الطبقة السياسية التي كانت تعارض النظام آنذاك عند رجوعهالاستلام زمام السلطة في العراق، لكي تمرر جزءاً من الديمقراطية، وليس الديمقراطية الكاملة، وهذا الجزء متمثل بصناديق الاقتراع فقط، ولم يشمل أسس العمل السياسي والاداري المؤسساتي اللازم لبناء دولة، خصوصا ان الاحتلال أوقف العمل المؤسساتي للدولة السابقة، الذي كان على علاته واخطائه، ممكن ان يطوَّر ويتم تغيير قياداته البعثية باخرى غير ملوثة، ليتم بناء نظام مؤسساتي جديد تدريجياً بعد مرحلة انتقالية لادارة الدولة.
اما البيئة الاجتماعية والسياسية، فقد كانت مهيئة على الإطلاق لهذا النوع من الديمقراطية في ظل تغيير مفاجيء لأعتى دكتاتورية في العصر الحديث، بواسطة قوى احتلال، ووجد الشعب نفسه في حرية واسعة جداً بعد هذا التغيير الدراماتيكي، لكنه في نفس الوقت بدأ يتعبأ ويتخندق طائفياً، وقومياً، فبدأ الاختلاف يتحول الى خلاف.
وللاسف استغلت القوى والشخصيات السياسية ذلك، وبدأت تلعب على هذه الاوتار، وتغذي الاختلافات، محاولة استمالة الناخب الى التصويت طبقا لهذه التخندقات وليس على أساس الكفاءة والمصلحة العامة
اذاً الديمقراطية العرجاء في العراق اصبحت مقدمة لنتائج ذات اثار خطيرة على المجتمع، جراء سيطرة هذه المجاميع السياسية القائمة على التخندق والانقسام على الحياة السياسية، وبسبب تحطيم موسسات الدولة من قبل اتباع النظام العالمي الجديد، اصبح لزاماً على هذه القوى المهيمنة على الحياة السياسية ان تتصدى لادارة البلد، لكنها للاسف عند تصديها لم تتبنَّ مفهوم الدولة، بل راحت تتقاتل وتتفاهم وتختلف وتتفق على أساس نسبتها في السلطة، وفي مصدر القرار الاداري، وبذلك تجاوزت مبدأ الدولة، ليحل محله مبدأ السلطة، وبذلك أسهمت هذه الديمقراطية المزعومة بإجهاض بناء الدولة في عصر مابعد الدكتاتورية، وستأتي بنتائج عكسية عاجلا ام اجلا، بحيث يكفر المواطن بحالة اللادولة، وينقلب على نفسه بانقلابه على مفهوم الديمقراطية. وفي اهدأ ردود الأفعال سيمتنع عن ممارسة التصويت الانتخابي، ويفسح الطريق لان يكون التصويت محصوراً بالمحزبين فقط، وتاتي مخرجات الانتخاب بنفس النتائج التي أدت الى اجهاض بناء الدولة، وهكذا يصبح مستحيلاً الخروج من هذه الدائرة، لتبقى حالة اللادولة هي السائدة، والدولة الخفية هي التي تقود زمام الامور نحو الهاوية، من كواليس وغرف عمليات منتشره في بعض العواصم الاقليمية والعالمية، ويبقى العراق في حالة من التردي الاقتصادي، والخدمي، والتخبط الاداري يدفع ثمنه المواطن البسيط، وكل هذا بإسم الديمقراطية.