العراق اليوم – خاص:
يقفُ علي ذو التسعة عشر ربيعاً، بوجهه الأسمر مرتدياً ملابس حديثة، امام سيارة تاكسي صفراء، في احد شوارع المدينة، وحين يقترب منه شخص، ظناً منهُ انه يعمل كسائق اجرة يرفض ويعتذر، ويظل طوال ساعات مرابطاً امام سيارتهِ هذه الى ان يحل المساء، فيغادر المكان، ويعود اليه مرةً أخرى في اليوم التالي، التساؤول الذي يثيرهُ وقوف هذا الشاب، قد يجد جوابه عند بعض اصحاب المقاهي الموجودة في هذا المكان. الشاب الذي اختفى فجأة، علمتُ من خلال سؤالي عنه، ان القوات الأمنية قد اعتقلتهُ مؤخراً، ولدى محاولة فهم سبب الأعتقال، قال لي احد اصحاب المقاهي: أنهُ يبيع "اليابس" و"الرطب"!، هذا ما يسردهُ الحاج محمد علي صاحب مقهى الرواد.
اول الامر لم افهم معنى كلماته هذه، وهل يؤدي بك، بيع "اليابس" والرطب" الى السجن؟
بقي السؤال قائماً الى ان حاولتُ بفضولي الصحفي التعرف لحقيقة هذه المصطلحات، فتبين ان الشاب كان يبيع المخدرات والمشروبات الروحية في هذا المكان، حيثُ كان يستخدم سيارتهِ كمتجر متنقل، الى ان ضبطتهُ القوات الأمنية متلبساً بالجرم المشهود، لينال جزاؤه العادل!
ظل التساؤل الاكثر الحاحاً عندي، لماذا لم يقم هذا الشاب وهو في مقتبل عمره بعمل قانوني يجنبه هذا المآل؟ لماذا ينجرف شباب بعمر الورد الى ارتكاب مثل هذه الجرائم الخطرة؟ مالذي يدفعهم الى الوقوع تحت طائلة القانون في وقت يمكن ان يحصلوا كأقرانهم الأسوياء على فرص عمل قانونية، لا تؤدي بهم الى غياهب السجون، او تحولهم الى ادوات لتدمير المجتمع؟
رحتُ ابحث عن تجارب أخرى، ونماذج كـ"علي" بائع " اليابس" و"الرطب"، ولكن في مهنة أخرى ممنوعة، ومحرمة شرعاً وقانوناً، فكان ان اكتشفتُ عن طريق الاستعانة بأحد ضباط الشرطة، حالة أخرى، لشاب أخر تولد 1992، اعتقل مؤخراً وهو يعمل في مخزن غير قانوني يقوم بتزوير ماركات وعلامات تجارية عالمية لأنواع متنوعة من البضائع " كالمواد الغذائية والألبسة وحتى الأجهزة الكهربائية وغيرها من السلع الكمالية".
الشاب حاصل على شهادة الاعدادية الصناعية، وقد اعترف صراحةً امام قاضي التحقيق بقيامه بمثل هذا العمل الذي سيواجه بسببهِ عقوبات سالبة للحرية قد تمتد لأعوام طويلة من عمره!
طلبتُ الحديث اليه، فسمحُ لي بحديث قصير بحضور الضابط المسؤول عن المعتقل، سألتهُ عن اسمه، فاجاب يدعى أحمد .ض، يقع ترتبيه الثالث بين اربعة اخوة لعائلة متوسطة، حيث يعمل اخويه الاكبر منه كموظفين في الدولة، وكذلك ابوه، فيما اخوه الأصغر لا يزال طالباً، سألتهُ ان كان يملك هو هذا المخزن الذي ينفذ فيه جرائمه الاقتصادية؟، اجابني بالنفي، فهو جزء من مجموعة يقودها احد التجار الصغار الذين يقومون منذ عدة اعوام بمثل هذا النوع من التجارة الى ان القت القوات الأمنية بعد رصد ومتابعة القبض على اعضائها متلبسين بالجرم المشهود، وسألتهُ عما يتقاضاه من اجور ازاء ما يقوم به من عمل، فأجابني انه يحصل على ما يعادل الف دولار امريكي شهرياً، ويقوم بصرفها على سفرات متعددة، وشراء ملابس واكسسوارات وهواتف حديثة وغيرها من الأمور.
ضحية تظليل!
حاولت الاستيضاح منه ان كان يعرف ان ما يقوم بهِ من اعمال تقع تحت طائلة القانون!، وانها جرائم يعاقب عليها بالسجن والغرامات وغيرها؟، فرد بالنفي، يقول احمد " كنتُ في اول الأمر اظن ان العملية سهلة وليس لها اي تأثير، حين بدأتُ العمل في السوق قالوا ان هذا عرف سائد بين التجار، ولا يمكن اكتشافه، بل أنهم قالوا لي في البداية ان ما نقوم به في "المعمل" المكان الذي كانا نمارس فيه هذه العملية، هو جزء من عملية الأنتاج، حيثُ ان عملنا يقتصر على تركيب علامات تجارية، او تغيير بعض تواريخ الانتاج فحسب".
ويضيف " لكني بمرور الوقت اكتشتفتُ ان الأمر سري جداً، فعرفتُ ان ما نقوم به من عمل مخالف للقانون او على الأقل غير مرغوب به".
ولدى سؤالي عن سبب استمراره بممارسة مثل هذه المهنة الممنوعة، يقول أحمد " الخوف من البطالة هو الذي دفعني للبقاء، كما ان التطمينات كانت كبيرة حيثُ يؤكد لي الكثيرون ان ما نقوم به ليس الا عمليات تجارة فقط، وان الشرطة لا تتابع مثل هذه الأعمال "!
ويعتقد أحمد كما هو حال كل من يقع في طائلة القانون، انهُ ضحية لعملية خداع قام بها ارباب هذا العمل، فيما القانون يضيع تحت يافطتهِ "انه لا يحمي المغفلين"، ان كانوا بالفعل مغفلين !
بيع ادوية غير مرخصة
محمد .ع .ح ضبطتهُ القوات الأمنية ضمن مجموعة كبيرة تقوم بترويج ادوية وعقاقير طبية غير مرخصة قانوناً، عبر منافذ بيع غير قانونية، وهو يواجه القضاء الأن لينال جزائه، وصلتُ له بأذن قانوني لاجراء مقابلة يبلغ محمد 27 عاماً، خريج الدراسة المتوسطة، يقول " لستُ مذنباً ولا مجرماً، انا مجرد عامل في مذخر لبيع الادوية والعقاقير الطبية، وان ما جرى هو ان تنافس غير شريف قاد بعض ارباب هذه المهنة بالوشاية بصاحب المذخر الذي نعمل فيه وضبطتنا القوات الأمنية بحجة عدم الترخيص".
فيما يقول تقرير الجهة التي ضبطت هذا المكان " انهُ مكان تخزن فيه أدوية وعقاقير لا تحمل شهادات منشأ، ولا اجازات قانونية، و وصولات كمركية تثبت دخوله عبر المنافذ القانونية، فضلاً عن عدم حصول القائمين عليه على اجازات ممارسة مهنة بشكل قانوني من الجهات ذات العلاقة".
محمد يقول انه " واثق من البراءة، وان القضاء سينصفني، ولكني مؤكداً لن أعود للتورط في مثل هذا العمل مجدداً تحت وان واجهت البطالة مجددا ً".
غياب الوعي القانوني
الباحث الاجتماعي محمد صالح يقول ان " هناك الكثير من القضايا التي تعرض على المحاكم العراقية لشباب في مطلع العمر، وهي في الغالب جرائم بسيطة، تأتي نتيجةً لغياب الوعي القانوني، وعدم متابعة الأهالي للأبناء الذين يقومون محتالون وتجار فاسدون في الغالب بتوريطهم بإعمال مخالفة للقانون، وينتهي بهم المآل لمواجهة عقوبات قاسية قد تشكل انعطافة نهائية لحياتهم ".
ويضيف " الكثير من الشباب وحتى الأحداث يتم توريطهم، ولكن القضاء يتعامل معهم كفاعلين للجرم، وبالتالي يصدر احكامه العقابية او الاصلاحية بحقهم لوقوع الجرائم تحت عناوين جريمة محددة كالتزوير والاتجار بالمخدرات، الدعارة، الاختطاف، قيادة شبكات اجرامية، الخطف والتسليب وغيرها من الجرائم".
عيادات قانونية الالكترونية
ويرى المحامي علي عمر ان الحل الأمثل لتجنيب الشباب الوقوع في هذه المطبات الكبيرة هو بنشر الوعي القانوني بينهم، من خلال الندوات والبرامج التثقيفية ووسائل الاعلام المختلفة ( المقرؤة والمسموعة والمرئية) كذلك وسائل الاعلام الاجتماعي التي باتت الأقرب لهم".
ويثني عمر على تجربة العيادات القانونية التي باشر بها مجلس النواب العراقي، ويرى انها ستكون اكثر فعالية لو تحولت الى عيادات قانونية الالكترونية تقوم بنشر المواد القانونية وتشرحها عبر تطبيقات الهواتف الذكية، حيث ان هذه الطريقة يمكنها ان تضمن وصول المعلومة القانونية للشاب وهو المستهدف الأول من هذه البرامج.
فيما يرى الخبير القضائي حامد عبد الأمير ان قانون العقوبات العراقي النافذ صنف عبر مواده العديدة، المهن التي تقع تحت طائلتهِ، وان ممارستها تعدُ بموجبه جرائم يحاسب عليها .
ويضيف "القانون واضح فهو مثلاً منع التزوير بكافة انواعه وعالجه بعدة مواد وصلت عقوبات بعضها الى خمسة عشر عاماً، كذلك منع ممارسة البغاء كمهنة مثلاً وحدد لمن يرتكبها عقوبات معينة، كذلك كل المهن التي تعتبر جرائماً بحسبه، لذا يجب على المواطن ان يكون حذراً".
ويتابع " مثلاً جريمة الغش التجاري عالجها قانون العقوبات العراقي النافذ رقم 111 لسنة 1969، حيث نصت المادة 467 منه على ما يلي (ادة 467 يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبغرامة لا تزيد على مائتي دينار او باحدى هاتين العقوبتين من غش متعاقدا معه في: حقيقة بضاعة او طبيعتها او صفاتها الجوهرية او العناصر الداخلة في تركيبها او نوع البضاعة او مصدرها في الاحوال التي يعتبر فيها ذلك سببا اساسيا في التعاقد او كان الغش في عدد البضاعة او مقدارها او مقياسها او كيلها او وزنها او طاقتها او كان في ذاتية البضاعة اذا كان ما سلم منها غير ما تم التعاقد عليه)، ولذا فأن اي اشتراك سواء اكان عمداً او جهلاً يعد بموجب هذه المادة جريمة يستحق من يضبط بممارستها العقوبة المنصوص عليها، وحسب ما يرتأيه القاضي الذي يتولى القضية".
أسباب قاهرة!
فيما يقول الناشط المدني علاء عزيز ان " ثمة أسباب قاهرة قد تقود الكثير من الشباب للوقوع في فخ الجريمة، ولكن بشكل غير مقصود، فمثلاً هناك من يورط الشباب بإعمال في ظاهرها تبدو طبيعية، لكنها تنطوي على مخالفات قانونية قد تكون جسيمة، مما يؤدي بهولاء الشباب الى مواجهة القانون دون ان يكونوا قد خططوا لذلك مسبقا".
ويطالب عزيز " الشباب أولاً بترك اي عمل لا يعرفون مدى قانونيته، أو على الأقل الاستشارة قبل التورط بأي نوع من هذه الإعمال لتجنب اي مشاكل قد يواجهنوها مستقبلاً، كما ان القضاء مطالب ان يتابع حثيثات قضايا من هذا النوع كي لا يقع اي اجحاف بحق هولاء الشباب الذين تدفعهم اسباب اقتصادية موجعة للتورط في مثل هذه المهن الممنوعة".