بغداد- العراق اليوم:
ها قد مرت الذكرى الرابعة على ذلك الشجي، ولم يعد صوتهُ الملائكي، وهو ينسل كندىً فوق ذبذبات اثير يتسع لتلك الطاقة الهادرة، ها قد مر العام الرابع ولم يحتفل فؤاد في نهاية اذار، حيث ميلاد عشيقه، ولصيق روحه وفنه. مرت الدنيا كلها، وجاءت المباهج كلها، لكن فؤاد لم يأتِ بعد. وحين ارتفعت الرايات الحمراء بأيدي رفاقه لمحتُ انكسارةً في محيا الحزب، فالحزبُ كيان مادي يقفُ كل عام بين محبيه ليحتفي، الا انهُ بدا لسنوات ثلاث خلن حزين. فروحه الغائرة في وجدان الجميع، لا تزال تفضل الصمت على الحديث، تفضلُ الفراغ على ملئ الفضاء بلحن يلامس ارواح عشقت، وعشقت، وماتت من اجل العشق. في ذكرى فؤاد سالم الرابعة التي مرت امسِ، لم اشأ ان استذكره الا عبر بوابة الحزب الشيوعي الذي افنى فؤاد اعوامه التي مرت كالحلم من اجله، ومن اجل تلك الفكرة المثالية الهائلة، فؤاد تمثلها فغنى وغنى وغنى للفقراء وحدهم، عماد الوطن، ورايته وحصينته التي يذخر بها عنفوانه كله، ونضاله الواسع . في تسعينات القرن الماضي، وحين كنا ننمو كزهرً ناعم، تحت " دغل" السلطة الجاثمة، وحين كنا نبحث عن امس الوطن الذي اخفته يد الرعب عنا، صرنا نتلقف ما يصلنا من كتب ومنشورات يبعثها اخوة واصدقاء من خارج سور السجن الذي سور به السجان الاكبر الوطن، كنتُ انتظرُ بشغف ما يبعثه لي صديق مقيم في سوريا من منشورات ومجلات واشرطة، اتلقفها بوله، وانداح معها في رحلة منعشة، فالحرية شعور داخلي قبل ان تكون ممارسة في الظاهر. ذات مرةً، ومع عدةِ اشرطة وصلت، كان هناك شريط لمغنً تعرفتُ على اسمه قبل ان اسمعه، اسمهُ فؤاد سالم، كان صوته جريمة في وطنه، ما ان دار الشريط حتى فجر بيّ ثورةً، فالشريط عبارة عن اغانً وطنية واخرى ثوريةً واخرى لحن لحبيب يخاطبه سالم، فكنتُ ابصرُ عبر طيات صوت رخيم صورة وطن مستباح. وحين سمعت شريطه الذي يتغنى فيه بأمجاد ومآثر وتضحيات عشرة شهداء سقطوا برصاص ومشانق الطغاة، أزددت تعاطفاً مع الشهداء ومع القضية التي استشهد من اجلها هؤلاء الشهداء، مثلما ازددت كرهاً وحقداً على قتلتهم الاوغاد.. في تلك اللحظة، تغيرت الموازين لدي وان الغض الذي لا يزال يحلمُ بوطن لا ممنوعات فيه، ولا مقاصل للشرفاء تحتز اعناقهم، صورةً لوطن، لا صور لجلاد تملأ شوارعه، بل حلمتُ ولا ازال بوطن ينشر صور شعرائه وفنانيه في كل شارع ودرب حتى يضاء بهم افق الباحثُ عن الجمال. هولاء كلهم قتلة، وهناك فنانون يوقفون جنون القتل بهذا الجمال، اي معادلة تلك؟. مرت السنون وانا اكبرُ، وافتشُ في خبايا الجميع من حولي عن شريط ما او نتفةً من صوت هذا الغريد العاشق، اجزمُ اني حفظت اغانيه التي توفرت لدي انذاك كلها، ورحتُ احدث من اثق بهم عما اكتشفت، فكان البعضُ يجهل، والاخر يخشى، والثالث يبحث معي. رحل الديكتاتور، وانهارت جمهورية (الاخ الاكبر) كما يسميها جورج اوريل، وتطلعت لشمس اخرى ستبزغ على وطني، لكن حدث ما لم اكن اتوقعه للأسف، فالظلام الذي خنق الوطن طويلًا، ترك ظلاله الشاحبة هنا وهناك. وفي لحظة عبث واضحة صارت تيارات وقوى تنتقم من الجمال كله، لأنها تكره ان تعيش تحت ضوء حر. ما اهتزت الصورة لدي وما توقفت عن متابعة حلمي، وها هو فؤاد الممنوع والمحرم يعود للوطن، وان كان العودُ خاطفاً، لكنه عاد في كل زوايا الوطن، ما عاد ممنوعاً عليّ ان اقتني اشرطته، واعيد سماع ما فاتني من اناشيد الخلود والعشق التي كان يؤديها فؤد ثائرًا ضد الطغيان، عرفتُ الكثير عنه، وسمعت الكثير والاجمل، شاهدت فؤادًا وهو يتلو ايات عشق للوطن ولحزبه الذي ظل وفيًا له للحظته الاخيرة. قد لا يتسع المقام للمرور على تجربة فؤد سالم الفنية الحافلة، ولكن آثرتُ ان اعيد الاستذكار هذا بتجربة شخصيةً وبطاقة وفاء لفؤاد الوطن، وصوته في ذكراه الرابعة، فقد نساه البعض وتناساه الكثيرون لا لشيء الا لموقف ايدلوجي او حقد دفين على الجمال. فؤد سالم في سطور:
فؤاد سالم فنان ومغني عراقي وهو أحد رواد الأغنية العراقية في السبعينيات، اسمه الحقيقي فالح حسن جاسم آل بريج من مواليد محافظة البصرة قضاء التنومة في عام 1945.
بدأ الغناء عام 1963 وكان متأثراً بالمطرب العراقي الكبير ناظم الغزالي، وكان يغني في الجلسات الخاصة بمحافظة البصرة وفي نادي الفنون الذي أسسه ورعاه مجموعة من الفنانين والشعراء والكتاب البصريين، فكان أول ظهور علني له مع أول أوبريت غنائي عراقي (بيادر الخير) في بداية السبعينات، الذي أنتجه نادي الفنون بإمكانيات متواضعة، وكان من إخراج الفنان قصي البصري، ثم أتبعه بعد عام بأوبريت (المطرقة)، وكلا الأوبريتين أحدثا ضجة فنية واعلامية وسياسية أيضًا؛ كون غالبية أعضاء نادي الفنون والقائمين عليه كانوا من الشيوعيين العراقيين أو أصدقائهم. ظهر لأول مرة على شاشة التلفاز عام 1968 في برنامج (وجه لوجه)، وقد تبناه في بداية الأمر عازف القانون الفنان سالم حسين وهو الذي اختار له اسم (فؤاد سالم) الذي أشتهر به، وكذلك هو الذي لحن له أول أغنية في حياته الفنية وهي أغنية (سوار الذهب) وكانت من كلمات جودت التميمي، ثم غنى أغنية (موبدينة) للفنان محمد نوشي عام 1975.
دراسته للموسيقى تأثر الفنان فؤاد سالم بأساتذته في معهد الفنون الجميلة في بغداد من أمثال "سالم شكر" و"غانم حداد" ورغم انقطاعه الاضطراري بسبب مغادرته العراق منذ سبعينات القرن الماضي بسبب الظروف السياسية آنذاك -حيث اشتدت الحملة التي قادها نظام حزب البعث ضد اليساريين، وهي الحملة التي وصلت ذروتها في بداية الثمانينيات حيث تم إعدام عدد كبير من الشيوعيين والمتعاطفين معهم-، وغنائه العديد من الأغاني السياسية ضد النّظام البعثي، إلا أنه عاد وأكمل دراسته في جمهورية اليمن الجنوبي مما ساهم ذلك فيما بعد إلى المساهمة في تلحين أغانيه.
خروجه من العراق خرج من العراق لأسباب سياسية، حيث اشتدت الحملة ضد أصحاب الفكر الشيوعي ووصلت ذروتها في بداية الثمانينيات وأعدم صدام حسين عددًا كبير من الشيوعيين والمتعاطفين معهم، واشتد الخناق على فؤاد سالم، فبعدما فصلوه من معهد الفنون الجميلة؛ مُنع من الغناء في الأماكن العامة، ومنع من دخول الإذاعة والتلفزيون ثم اعتقلوه. وقال مرة: "ذات مرة استطعت أن أغني في مكان ما، لكنهم انتظروني في الخارج وأشبعوني ضرباً بأعقاب المسدسات، وجعلوا دمائي تسيل على الأرض، عندها أيقنت أن لا مكان لي في العراق؛ لأنهم سيقتلونني في المرة القادمة، فغادرت العراق وقلبي على كفي". وهرب عام 1982 متوجهاً إلى الكويت وظل في بداية خروجه من العراق يتنقل في منطقة الخليج. توفي في دمشق العاصمة السورية في يوم 21-12-2013 بعد أن عانى في السنتين الأخيرتين من مشاكل صحية أدّت إلى إصابته بتلف في أنسجة الدماغ أفقده القدرة على النطق والحركة.
فؤاد سالم والشعر كتب فؤاد سالم الكثير من كلمات أغانيه في السابق، بالإضافة إلى أنه نشر ثلاثة دواوين تتضمن شعرأً وزجلاً؛ أولها ديوان (عسر الحال) الذي أذيعت بعض قصائده في السابق على إذاعات المعارضة العراقية، وديوان (للوطن للناس أغني) وديوان (مشكورة) وديوان آخر عن ادب الفنون الشعبية ويتضمن 140 أبوذية و 200 دارمي.
أغاني فؤاد سالم الشهيرة ارد اوكف، ابن الحمولة ،اريدك، المحبوب، أغاني إذاعية، الناوي،الي الله، أنت اللي بديت، انتظار، بعدك صغيرة، حبيناكم، حدر ياهالبلام، درب الشوق، دكة خزعلية، رنة خلخال، سوار الذهب، شوق الغريب، ضحكة حبيبي، على درب اليمرون، عليمن يا قلب ،عمي يا بيّاع الورد، كلام الناس، ما تدرين، مالوم أنا ،مثل كل العاشقين، محلاها العيون، مو بيدينه، يا بعد عمري، يا طير الرايح، سعادة، مشكورة، أفعال حبيبي هذا منو دق الباب، هلي يا ظلام، هنا يالحادي، هوى الحلوين، وتسافرين، ودعونا، وردة اسقيتها، وينك حبيبي، يا عنيّد يا يابه، يابوبلم عشاري، صابرين، ثلاث نخلات،تعودت ،ردتك تمر ضيف ، أنا ياطير،حبينا ضي الكمر،العلويه،ياعشكنا، سلام الحب، وغيرها من الأغاني ، آخر أغنية غناها المطرب فؤاد سالم هي أغنية وطنية اسمها (جيش العراق) من كلمات ماجد الساري، وألحان طارق الشبلي، ومن إخراج كامل معن العقابي وبثت على قناة الفيحاء.
*
اضافة التعليق