بغداد- العراق اليوم:
الصراع بين الخير والشر صراع أزلي وعام، لا يقتصر على زمن معين، ولا على جنس محدد، إنما هو أمر يأتي في كل مراحل وعصور الحباة ، فهو قد يحدث بين دولتين، أو بين عشيرتين، أو بين اسرتين، أو قد يحصل بين أفراد أسرة واحدة. فالصراع بين الخير والشر باق مادامت الحياة باقية، ومادامت النفوس البشرية تنتج بذور الصلاح والجمال والحب، وتنتج في ذات الوقت بذور الحقد والخراب والكراهية. تتشابه الصور بين عناصر هذا الصراع وتتكرر حتى بعد مليون عام، وقد تختلف بعض الملامح البسيطة له، لكنه يظل حياً، ويبقى حياً مادامت اسبابه متواصلة ومتوفرة. فالصراع مثلاً بين خير (هابيل) وشرور (قابيل) لم يتوقف عندهما، بل امتد الى غيرهما بعد مئات الالاف من السنوات اللاحقة، وقد رأينا تاريخياً، كيف تكرر هذا الصراع في بيت الخليفة هارون الرشيد لما تقاتل ولداه الأمين والمأمون، وتكرر بعد ذلك في اكثر من بيت ملك وأمير وحاكم وقيصر وشيخ وتاجر. واليوم نرى صراع الخير والشر الذي جرى في بيت سيدنا آدم في مطلع الزمان يحضر الى كردستان، وتحديداً الى بيت الرئيس جلال طالباني، حيث ينتقل الشر الذي كان مزروعاً في صدر قابيل الى صدر (قوباد)، وينتقل الخير الذي كان مزهراً في صدر (هابيل) الى صدر (بافيل)، فيقف أحدهما في الجهة المعاكسة لجهة الآخر، أي مثلما وقف ويقف الخير دائماً في الجهة المعاكسة لجهة الشر !!
مختصر بسيط لقصة قابيل وهابيل :
حين حملت حواء ووضعت طفلا سمته قابيل، فرح آدم بأول ولد له، ومرت سنة أخرى، وحملت حواء ووضعت طفلاً آخر سمته هابيل، واستمر آدم في البحث عن الطعام وإحضاره للأسرة، التي زاد عددها. وكبر قابيل وهابيل، وكان عليهما أن يعملا ليساعدا آدم في جلب الطعام للأسرة، وفى حمايتها من السباع والنمور والوحوش. كان قابيل هو الأكبر، ولكن هابيل كان هو الأقوى، وكان قلبه رقيقاً، ونفسه طيبة، رؤوفاً رحيماً بكل من حوله من نبات وحيوان. زادت الفواكه والثمار التي رزق الله بها آدم وولديه، فأراد آدم أن يعلم ولديه الكبيرين كيف يشكران الله على هذه النعم الكثيرة، فأمرهما أن يذهبا إلى قمه الجبل، وأن يضع كل منهما شيئا من محصوله، ليأخذه ويأكله أي مخلوق من مخلوقات الله التي لا تعرف تربية الحيوان ولا زراعة الأرض، فيكون زكاة منهما وقربانا إلى لله. ذهب هابيل إلى غنمه، وأخذ يبحث حتى وجد خروفاً سميناً كان أحسن خروف عنده، فذبحه، وهو مسرور، لأنه سيقدمه لله الذي يرزقهم بالطعام والشراب، أما قابيل فقد أخذ يبحث في الفاكهة والثمار التي عنده، لكنه لم يكن يبحث عن الحسن فيها، بل كان يبحث عن شيء رديء، لأنه هو نفسه كان رديئاً بخيلاً حتى وجد فاكهة فاسدة. فقدم قابيل إلى الله هديته الرديئة الفاسدة، وكان قلبه رديئا كهديته، وقدم هابيل هديته التي كانت أحسن ما عنده وكان قلبه صافياً نظيفاً. وفى اليوم التالي، ذهبا ومعهما أبوهما آدم إلى قمة الجبل، فلم يجد هابيل هديته، فعرف أن الله قبلها منه، أما قابيل فوجد هديته الرديئة كما هي. ففرح هابيل وشكر الله، وغضب قابيل، واغتاظ من أخيه. وقال لأبيه وهو غاضب: إنما تقبل الله منه لأنك دعوت له ولم تدع لى. فقال له آدم: بل تقبل الله منه لأنه قدم أطيب ما عنده، وقلبه صاف، أما أنت فقدمت إلى الله أردأ ما عندك وقلبك رديء، إن الله طيب لا يحب إلا الطيب. وانصرف هابيل، ووقف قابيل ينظر إليه وهو غضبان، فقد كان حزينًا لأن الله فضل أخاه عليه، ولم يدرك أن قلبه الممتلئ بالكره والبخل كان السبب في أن يفضل الله شقيقه هابيل عليه. وجاء الشيطان كما تقول الحكاية، وهمس في أذن قابيل: اقتل أخاك، اقتل هابيل.. فرفع رأسه ونظر فرأى أخاه يسير هادئا، فشعر بضيق، وراح الشيطان يقول له اقتل هابيل اقتل هابيل. فأسرع خلف أخيه حتى إذا لحق به، قال له في غضب لأقتلنك، فقال له هابيل في استغراب لماذا تقتلنى؟ نظر قابيل نظرة كلها كره وحقد إلى هابيل، وقال: لأن أبى يحبك أكثر منى، ولأن الله فضلك على. فقال له هابيل في استغراب: إن قتلى لن يغير شيئا، فلن يحبك أبى لأنك قتلتني، وسيزداد غضب الله منك. وقبض قابيل هابيل وهو ثائر، فقال له: سأقتلك لأستريح منك. فقال هابيل لأخيه: لن تعرف الراحة إذا قتلتني. فقال قابيل والغضب يعميه: لن أعرف الراحة حتى أقتلك. فقال له هابيل في هدوء، وكان أشد من أخيه وأقوى: «لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ». وانصرف هابيل في هدوء، بينما وقف قابيل ينظر إلى الأرض، وهو يشعر بكره شديد.
قصة صراع قوباد وبافيل
ترك الرئيس الراحل جلال طالباني أرثاً كبيراً، ولا نعني به الارث المادي فحسب انما هو ارثه السياسي، وكاريزما لشخصية عراقية كردية، مازجت بين البرغماتية من جهة والعاطفة القومية من جهةً اخرى، فبقيت تمسك العصا بينهما من المنتصف، حتى لا تفرط بواحدة منها، فهو الى جانب مخاطبته للمشاعر القومية الشعبية في الشارع الكردي، كان يعود ليقرأ بعين العارف المشهد الداخلي والاقليمي المحيط به، فينتج خطابه متوائمًا مع الممكن، متناسيًا تلك المشاعر. ويبدو ان منهج طالباني السياسي تحول الى مدرسة للأجيال الشابة، فيما بقي الحرس القديم ينظر الى الامور بنظرة الاربعينات من القرن الماضي، بل وابعد من تأسيس جمهورية مهاباد حتى! وبرحيل سدنة الاتحاد الوطني، اما موتًا كرحيل رئيسه التاريخي مام جلال وقبله ابراهيم احمد، ونوشيروان مصطفى، وانشقاق بعضهم كبرهم صالح، وغيره، واعتزال البعض الاخر للشأن السياسي، بقي الاتحاد مفتوحًا امام اجيال شابة طموحة، لكنها للأسف انقسمت بين منهجين، منهج جلال وواقعيته السياسية، ومنهج قديم لا يرى ابعد من ارنبة أنفه في العمل السياسي. ويمتد هذا الانقسام حتى الى داخل عائلة طالباني نفسه، الذي من المفترض ان يرث ابناؤه منهجه السياسي، الا ان الانقسام نسخ نفسه في هذه العائلة. فالرئيس جلال اعقب له نجلين من الذكور، هما نجله الاكبر السيد باڤيل طالباني والاخر هو قوباد، وقد حرص الرجل على ابعادهما بمهمات سياسية خارج الاقليم. فقد اوفد قوباد الى واشنطن كممثل للاتحاد الوطني الكردستاني، ثم عاد بعد الازمة الاخيرة التي عانى منها الرئيس الراحل في صفقة سياسية مع حزب البارزاني الذي منحه منصب نائب رئيس وزراء حكومة الاقليم، التي يترأسها نيچرفان پرزاني. لينظم فيما بعد الى منهج اخر متشدد لا يعي ما في السياسة، ولا يعرف استثمار برغماتية ابيه، ولا نظرته الواقعية، فصار قوباد برزانيًا اكثر من بارزاني نفسه! الإ ان باڤيل طالباني الذي عمل في الولايات المتحدة ممثلًا للاتحاد، يبدو انه الاكثر واقعيةً والاكثر تمثيلًا لمنهج الرئيس جلال وواقعيته السياسية. مع الازمة المصطنعة التي افتعلها مسعود مع بغداد للهروب من الصغوط الداخلية التي تحاصره، فإنقسمت اسرة طالباني بشكل واضح بين من قرر البقاء خارج مركب الاتحاد، متخذًا الجبل عاصمًا من الواقعية كما فعل قوباد. وبين من تمسك بسفينة الاتحاد، وقادها بسلام الى حيث ضفة التفاهم مع بغداد، والواقعية في المطالب كما فعل السيد باڤيل طالباني وابن عمه رئيس قوات مكافحة الارهاب لاهو ر شيخ چنكي ومعهما النائبة الشجاعة الاء طالباني وعقيلة الرئيس هيرو خان، وعدد اخر من قادة الاتحاد الوطني. لقد كشفت الازمة الداخلية في الاتحاد عن منهجين متعارضين، على الرغم من التقارب العائلي مثلًا، فقوباد الذي اقترب برفقة كوسرت رسول كان قد اختار انتهازية برزاني ولا واقعيته، بل وغبائه السياسي الذي اعماه عن قراءة المشهد الدولي والاقليمي والداخلي، وبين من قرأ الازمة بعيون جلال طالباني وحلها بقدرته السياسية، ليجنب نفسه مآلات لا تنتهي الا بكوارث على الاقليم. وقبل هذا وذاك يجب الإشارة الى ان الروح الخيرة، والنفس الطيبة التي يتمتع بها بافيل جلال الطالباني، قد جلبت له محبة الأسرة، وحب الجماهير الشعبية، لكنها في النفس الوقت حركت جمرة الحقد في صدر أخيه قوباد، فدفعته للوقوف بقوة مع مسعود برزاني ضد ابناء شعبه، وبلاده، وضد أسرته وأخيه بافيل ايضاً! فهل ستتكرر لعنة الصراع الدموي بين الشقيقين قابيل وهابيل، فتنتقل العدوى الى بيت جلال طالباني، وتنتهي قصة شرور (قابيل) الطالباني الى الأبد؟ وهل سنرى بعد اندحار خط قوباد ومسعود وكوسرت على يد القوات المسلحة العراقية، املاً بولادة جديدة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، على ضوء تلك المبادئ التي تأسس عليها، من خلال جمهرة القادة الشباب الذين فاجئوا الجميع، واول المتفاجئين مسعود، الذي ظن مخطئًا ان جلال غريمه التاريخي قد مات و انتهى، فيما فاجئه انبعاث منهج الرجل، حتى وان تعمد قوباد نجله ان يغطيه بعلم كردستان، الا انه مزق هذه الانتهازية، وانبعث من جديد عبر القيم الخيرة التي ظهر بها نجله بافيل؟! اننا واثقون من اننا سنرى في قادم الايام كيف سيصحح الاتحاد نفسه، ويلفظ الخونة منه، ويلفظ من اصابته لوثة الغباء البرزاني ولعنة شرور قابيل !
*
اضافة التعليق