بغداد- العراق اليوم:
عرفت الأوساط السياسية العراقية والعربية والدولية، وجهًا للحركة الكردية غير ذلك الذي اعتادت عليه منذ سطوة شيوخ العشائر الكردية على واجهة التمثيل السياسي لهذه القومية، وتحول هولاء الشيوخ الى زعماء للحركة الكردية في المنطقة برمتها. نعني بذلك الوجه هو الاتحاد الوطني الكردستاني الذي اسسه الراحل جلال طالباني وابراهيم احمد في العاصمة السورية دمشق في العام ١٩٧٥ ليكون واجهةً تقدمية كردية، ازاء الرجعية المتخلفة التي يمثلها الملا مصطفى وابناؤه، وافراد عمومته.
ولأن جلال الطالباني كان حركيًا قل نظيره، وسياسيًا لم تجد الحركة الكردية على طول مسيرتها بمثله، فأنه خطف الاضواء من كاريزما الملا وابنائه، وصار واحدًا من اشهر قادة حركات المعارضة في العالم. فإلى جانب الحراك السياسي الواسع والحضور المؤثر في المشهد العراقي، فأن الرجل ظل حضوره الفكري والثقافي يوازي ذلك الحضور. فالطالباني اليساري التوجه كان صديقًا للمثقفين والادباء، وقائدًا لحركات تحريرية فكرية، وديمقراطيًا في التعامل، منفتحًا على الآخر ضمن حدود رحبة. ولعل علاقته مع الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري واحدة من اكثر العلاقات التي حازت على رمزية عالية، فكلا الرجلين له حضوره المميز في ساحتي الادب والسياسة، وكلًا منهما له ايضًا صولاته وجولاته في مقارعة الديكتاتورية .
ولهذا شكل جلال الطالباني وحزبه واجهةً فريدة لاسيما بعد تجربة النضال المشترك مع الحزب الشيوعي العراقي القائد الطليعي لحركة التحرر الوطني، ومناهضة الرجعية ومشاريع العمالة.
وهكذا فقد تميز حضور الاتحاد الوطني بكونه منجماً لتوليد المعتدلين من الساسة الاكراد، كالدكتور برهم احمد صالح والسياسي المعتدل عادل مراد وغيرهم من السياسيين الذين يؤمنون بالحوار طريقًا لحل المشاكل الوطنية.
ولذا فأن ما ينسب للمرجعية من وصف لجلال طالباني بأنه صمام امان للعملية السياسية، يكرس الدور المحوري، والعقلاني، لجلال واتحاده في ان مصير ومستقبل الاكراد العراقيين هو في العراق، وانهم لن يتركوا الحلم بدولة كردية، لكن هذا يجب ان يبقى في احلام الشعراء.
لكن يبدو ان اعتدال مام جلال ورؤيته الواقعية والعقلانية قد ماتا مع موته، وان رياح الاتحاد تجري بما لا تشتهي اماني الراحل، فمنذ توقفه عن ادارة الاتحاد والى الان يبدو ان رؤية انهزامية تدب في داخل الاتحاد، وثمة منهج اخر يحاول متشددون فرضه على الواقع، ليجري تحويل الاتحاد الى ملحق صغير بحزب البرزاني، ولعل هذا التوجه هو محاولة اللحاق بتيار الشعوبية الذي انتشر في الاقليم مدفوعاً بتحريض عاطفي وتجييش قومي.
ما حصل اليوم في تشييع الراحل جلال طالباني كان بمثابة رصاصة الرحمة على ذلك الاتحاد الذي اسسه الراحل، والذي حرص على ان يكون جزءًا لا يتجزأ من ساحة العمل الوطني العراقي المشترك.
فمع كل تضامن بغداد وتفاعلها الحزين لفقد الطالباني، واستعدادها لاقامة جنازة رسمية تليق بتاريخ من الكفاح والنضال الوطني، تأتي الشوفينية الكردية الطافحة، مدعومة بلغة ثأرية رفضها الراحل في حياته، لتختطف جنازته من مسيرة الاعتدال التي احب، الى جوق التعصب القومي الذي بغض.
ان ما حدث في جنازة الطالباني ارسل رسالة مؤسفة لكل الشركاء مفادها ان الرهان على صوت كردي معتدل قد تم قبره مع جلال طالباني اليوم، ولم يبق مما يمكن الرهان عليه، الى ان يثبت العكس، فهل آن الآوان لنقول للأتحاد الوطني الكردستاني … وداعًا ؟. الايام ستثبت ذلك من عدمه.
*
اضافة التعليق