بغداد- العراق اليوم:
حين تعاقب على سدة حكم بلاد الرافدين، حكام متعددون، ملوك ورؤساء جمهوريات ورؤساء حكومات، كانت الانظمة تقريبًا، أنظمة شمولية لا تتيح لشخص الحاكم ان ينفرد، او يغرد خارج سرب فكرة " الحكم المركزي الشديد" الذي ترتبط به او يرتبط هو بالمؤسسة العسكرية، لا فرق، فالعراق الجمهوري عراق عسكري. حتى وان جاء اخر حكامه من خارج هذه المؤسسة الا ان البزة العسكرية ظلت هي ايقونة السلطة والحاكم. بمعنى ان رؤساء الحكومات لم يبذلوا جهدًا انذاك ليصنعوا فرصًا لهم، ومن ثم ينجحوا في ان يخلدهم تاريخ البلاد وذاكرة الناس. اللهم الا في القمع والتغييب والتهور فهم كانوا بذلك ابطالًا لا ينافسهم في قمع العراقي احد. في عراق ٢٠٠٣، كانت النظرة تتحول لشكل الحاكم الذي صار يأتي من خلفية حزبية مدنية التوجه، ويدير البلد بعقلية رجل السياسة التي ولد من رحمها، لا من مؤسسة عسكرية صارمة ببيروقراطيتها. من هنا كان الجميع ينتظر وينظر لشخص رئيس الوزراء وكاريزماه التي تؤثر في المحيط، وتتأثر بعوامل النجاح والاخفاق، الارتخاء والشد، الصرامة والحزم وغيرها من صفات القادة. معنى هذا اننا امام قادة يصنعون هم لأنفسهم فرص النجاح، وهم بأيديهم يختارون طرق الاخفاق والعجز . من هذا يمكن ان نقرأ مسيرة رئيس الحكومة العراقية الحالي الدكتور حيدر العبادي، الرجل السياسي الهادئ، قليل الكلام، صاحب القسمات الوادعة، الذي نادرًا ما تبدو على ملامحه قسمات الغضب او التأثر الانفعالي. فهذا الرجل تسنم ادارة البلاد في ظرف دقيق جدًا، بل يكاد ان يكون الظرف الاصعب في تاريخ العراق الحديث. فالبلاد كان قد وقع نصف اراضيها تحت سطوة احتلال اسود لم يسبق لها ان واجهت مثله، مضافًا لهذا كانت داعش تتمدد على الارض وتقضم المزيد. وكان المزيد من انصار هذه الجماعة يلتحقون بها يوميًا من داخل الحدود وخارجها حتى باتت المنطقة خزان تطرف قابل لالتهام العراق والمنطقة برمتها. هنا كان الجميع يتساءل بحيرة : كيف سيدير هذا الرجل الهادئ الوديع حربًا مثل هذه الحرب الشرسة، وكيف سينزع صواعق هذه القنابل المدمرة دون ان تنفجر لتجزأ وتمزق الخارطة العراقية؟. كيف سيوفق العبادي بين رؤيتين متقاطعتين للحرب، وبين متطوعين يعتقدون ان الولايات المتحدة وحلفائها وراء تسرب داعش للعراق، وتحالف دولي بقيادة امريكا يطرح نفسه حليفًا للعراق في معركته؟. كيف سيدير زمام جنرالات ذوو خبرة وبأس يريدون اعادة تصحيح الاوضاع في مؤسسة عسكرية عرضتها الخيانات للتفكك الذي ادى للهزيمة؟. وفوق هذا كله كيف سيقنع العبادي اهالي المناطق الواقعة تحت داعش، انهم سيكونون بحماية الحكومة التي ستتجاوز مشكلة التأييد الاختياري او الاجباري لداعش، ويجنبهم ويجنب المعركة مخاطر التحاق المزيد من السكان في الحرب ضد بلادهم ؟. كل هذه الاسئلة الصعبة وغيرها، كانت تضع امام المراقب اكثر علامة للحزن والخوف والترقب الحذر. فهل سينجو هذا الرجل والعراق، ام انه سيغطس به الى المزيد من التداعي والانهيار؟. الايام التالية كشفت ان الرجل نجح بجدارة في ملف الحرب وتحرير المدن عسكريًا، ونجح بمعاونة قادة عسكريين ابطال من اعادة الثقة للجيش وصنوفه، نجح في الرهان على الحشد الشعبي كورقة ناجحة ورابحة في كل المعارك. واليوم اذ يقترب العراق من تحرير كامل ترابه المقدس، فأن الجميع مطمئن لسير ادارة المعارك ونتائجها ايضًا.
العبادي في مواجهة استحقاق القرن !
ظن الشيعة بعد ٢٠٠٣ أنهم استطاعوا حل المشكلة الازلية في العراق الحديث، الا وهي مشكلة الاقلية القومية الكردية التي ظلت خنجرًا في خاصرة الوطن، وظل الحكام المتتابعون يستخدمون الخناجر لاسكات الصوت الكردي. فكان دستور ٢٠٠٥ دستورًا حافلًا بحقوق غير مسبوقة للاكراد في تاريخهم كقومية- باعترافهم هم - لكن الايام التالية أثبتت ان هذا الظن لم يك صحيحاً مطلقاً، فالقادة الاكراد في طليعتهم مسعود برزاني محملون بعقد الماضي كله، ونهازوا فرص كطبيعتهم المتوارثة. ولم يك يقنعهم كل هذا الثراء الذي بين ايديهم، وأقصد ثراء الحقوق المستحقة وغير المستحقة الممنوحة لهم.. لقد واجه رؤساء الحكومات (الشيعة)، مشكلة الطموح الكردي غير المحدود، وغير المشروع بالكثير من الاسترخاء واللين والتعاطف والتلبية، الى الحد الذي تجاوزوا فيه كل الخطوط الحمر، ولم يعد بالامكان الصبر اكثر، فكانت حكومة المالكي الثانية حازمة مع هذا التمدد غير المنطقي للاكراد، لاسيما في مجال الثروة الوطنية وتهريب النفط. وحدث ما حدث بعد ذلك . كانت القنبلة البرزانية ارثًا ثقيلًا واجهه العبادي ايضًا، لكنه فضل ان يتجنبها في لجة الحرب مع داعش، ومع كل محاولاته عدم الاصطدام بهم، وتأجيل التقاطع معهم، كان البرزاني يستفز بغداد، ساعة بعد اخرى لغرض فتح ملفه بقوة، الى الحد الذي تجاوز كل قرارات القضاء ومجلس النواب الاتحادي وذهب منفردًا لاجراء استفتاء احادي غير شفاف حول استقلال شمال العراق، وضم محافظات وبلدات عراقية خارج حدود محافظات الشمال العراقي. في مثل هذه اللحظة التاريخية الفاصلة، اشرأبت الاعناق نحو بغداد، وما تصنع، وكيف سترد؟. الى اللحظة التي نكتب فيها، لم يزل العبادي واثقًا كعادته من النصر في هذا النزال، فالرجل فاجأ الجميع ان لدى بغداد الكثير من الاوراق والفرص لتلعب فيها، ولتكسب ايضًا، فيما قام برزاني بلعب اخر اوراقه قبل اي ورقة. لكن رد فعل بغداد اتسم بالتنظيم الجيد، والقانونية الواضحة والعقلانية الشديدة، مع حزم جيد ايضًا، وهذا مما افقد الاخر توازنه، الذي راهن على الانجرار للحرب منذ ساعات الاستفتاء المشؤوم، لكن العبادي لم يمنحه هذا الطوق للنجاة لغاية الان . ان امام العبادي فرصًا يصنعها هو بنفسه لاعادة تحرير الارادة العراقية الوطنية، كما حرر الارض المغتصبة من داعش، وانقذ العراق من الضياع بيد دولة الخرافة، فأنه سيواجه احلام خرافة اخرى اسمها دولة مسعود التي سرقها في غفلة من الزمن. السؤال الاكثر وضوحًا الان : كيف سيتصرف العبادي امام هذه الفرص فيصبح الرجل الذي لن تنساه الذاكرة العراقية، وستحفظ جميله بحفظ وحدة البلاد، وكسر عنجهية مسعود واتباعه الانفصاليين القوميين الذين لا تزال عقلياتهم تنتمي الى قرون وسطى تحلم بالرياسة والزعامة بأي ثمن وبأي طريقة.
*
اضافة التعليق