بغداد- العراق اليوم:
مجنون من يظن أن العراقيين يسكتون على حيف، ومجنون أكثر من يصدق هذا الظن. إذ كيف يرضى العراقيون، وهم الشجعان العنيدون، الذين يفدون حياتهم دفاعاً عن كرامتهم، ومعتقداتهم النبيلة، والمقدسة، كيف يرضون أن يمتهن كرامتهم لا سمح الله حاكم ظالم أو عصابة مجرمة، أو طاغية أحمق، دون أن يزلزلوا الأرض تحت أقدام الظالمين والمجرمين والطغاة؟
لذلك خرجوا في وثبة كانون المجيدة، وقد كانت فتاة الجسر علامة غضبهم الساطع، ليتحقق النصر للشعب، ويُهزم المستعمرون وأذنابهم قبل سبعين عام.. وحين نجح الانقلاب البعثي الدموي على الشهيد الخالد عبد الكريم قاسم في الثامن من شباط عام 1963، وعاث الإنقلابيون فساداً في ارض الرافدين، تصدى لهم عشرة من الجنود المتطوعين في معسكر الرشيد بقيادة العريف حسن السريع، وينجحوا في إعتقال وزراء الحكومة الإنقلابية، وقادة البعث المتسيد للمشهد الإنقلابي آنذاك، وقد خلد هؤلاء الشبان، الفنان فؤاد سالم بأغنية وطنية قال فيها "يا قطار المار من ذاك الرصيف.. هناك صارت ملحمة ومشهد عنيف.. ثورة عشر جنود والقائد عريف.. هزت الطغيان والظلم الشنيع ... يا قطار بهيده لا تمشي سريع".
وهناك عشرات الملاحم الوطنية التي أثبت فيها العراقيون بطولاتهم، وعشقهم الفريد للحرية.. ومن بين هذه الملاحم ملحمة اللواء الطيار البطل محمد مظلوم الدليمي، الذي أعدمه صدام عام 1995 في مقر جهاز المخابرات في بغداد، بسبب إقدامه على إسقاط النظام البعثي الصدامي عبر إنشاء تنظيم سري ضمه مع رفيقه العميد قوات خاصة الشهيد وضاح الشاوي، ونخبة من أعلى الرتب العسكرية في الجيش العراقي، منهم الشهيد شاكر فزع شنيتر، والشهيد صالح محمد صالح، والشهيد عبد الرزاق الجبوري وغيرهم من أبناء الأنبار الأحرار....
ملحمة المنصور .. وتهشيم قامة (عدي)
لا شك أن ملحمة إغتيال المجرم عدي كانت عرساً لجميع الأحرار الساعين للإنعتاق من العبودية والطغيان ليس في العراق فحسب، بل وفي جميع بلدان العالم. لذلك إستقبل الناس هذا الحدث بفرح، ودهشة، وإعجاب كبير.. إذ ليس من السهل أن تحظى بثلاثة فتية، لا يملكون غير سلاح بسيط، وإيمان عظيم، وجسارة لا يملكها غيرهم، فيتصدون في وضح النهار، لإبن أشرس طاغية عرفه التاريخ، وفي وسط بغداد، بل وأمام مقر جهاز المخابرات العراقي المرعب، حيث ينتشر الحرس الخاص لأسرة صدام بسرِّية في كل مكان تطأه أقدام المعتوه عدي، وحيث يمكث الجواسيس، ورجال الأمن في كل متر من أمتار شارع المنصور .. ولا يكتفون بالتصدي لإبن صدام فقط، بل وبشموخ، وثقة، وشجاعة، يمطروه بالرصاص، ويصيبونه إصابات بالغة، ومميتة!
(أبو صادق) يروي فصول الرواية المدهشة
في أوربا، التقينا محدثنا (أبو صادق) الذي يعيش في المانيا منذ سنوات، ليروي لنا قصة إغتيال المجرم عدي في المنصور نهاية عام 1996، بعد أن رفض الرجل الحديث عن هذه الملحمة الوطنية الباهرة، وتبريره في ذلك، أن ثمة أشخاصاً أحق منه بالحديث عن العملية، باعتبارهم مشاركين فعليين، بينما هو –أي أبو صادق– لم يكن أكثر من مطلع على تفاصيل التخطيط للعملية، وعندما قلنا له بأن هناك الكثير من نسب العملية له، ولجماعته.. فقال: ربما هناك من يدعي دعمه للعملية، أو تبنيها، أو حتى المساعدة في بعض الأمور التكميلية، لكني أجزم بأن لا أحد يجرؤ على سرقة حق المتصدين الأبطال، أو سلب شرف التنفيذ منهم، فالمنفذون اليوم معروفون للجميع، وأي شخص غيرهم يحاول الإدعاء بقيامه بهذا العمل الفذ سينال الخيبة، والعار.. نعم هناك أكثر من جهة قد تكون دعمت العملية، أو بلغت بها، لكن موعد العملية، وتفاصيلها الناعمة لا يعرف بها سوى المنفذون أنفسهم، وبعض الأشخاص الذين لا يتجاوزون عدد الأصابع، وأنا واحد من هؤلاء المطلعين .. وأكرر المطلعين فقط.
يقول المجاهد (أبو صادق)، الذي قضى سنوات طويلة من عمره في أهوار المقاومة الباسلة لنظام صدام، مجاهداً مع المجاهدين الميامين، وبرفقة السيوف الوطنية الباشطة، بل هو واحد من هذه السيوف، يقول لموقع (العراق اليوم) عن هذه العملية المشرفة:
تم التخطيط لإغتيال المجرم عدي صدام في مطلع عام ١٩٩٦ عبر مقري (جعفر الطيار) و (1 شعبان) لمجاهدي الأهوار في منطقة (زورة آل جويبر)، التي كانت ضمن هور الحمار قبل تجفيف الأهوار العراقية. وقد أشرف على التخطيط للعملية القائدان الميدانيان: رزاق ياسر مظهر الغالبي، وقد كان اسمه الحركي آنذاك (سيد حمزة)، وجبار قاسم دعبل الحچامي واسمه الحركي آنذاك (ابو رياض البنّا).. بينما كان الرابط مع بغداد المجاهد (ابو زهراء الشطري).
وقد تكونت المجموعة المنفذة من المجاهدين الأبطال: سلمان شريف دفار (ابو احمد البزاز) من أهالي مدينة الشطرة، وقد كان مشرفاً على هذه المجموعة ومؤيد راضي حسين الچروخي السراجي (ابو صادق) من أهالي مدينة الثورة/ مدينة الصدر/ قطاع ٤٩ وهو الذي نفذ العملية بنفسه، وأطلق النار على المجرم عدي في تقاطع الرواد في المنصور (وهو حي يرزق الآن).
والشهيد عبد الحسين جليد عاشور (ابو سجاد) من أهالي مدينة الشطرة، وقد كان دوره الاسناد وحماية ظهر مؤيد، وتأمين انسحابه أيضاً.
والشهيد تحسين مجيد عبد مكتوب (ابو زهراء) من مدينة الشطرة أيضاً.. وهو سائق السيارة المسؤولة عن نقل المجموعة وانسحابهم. وقد نفذت العملية في شهر شعبان بعد أشهر عديدة من الرصد والمتابعة والتحري.. وهو أمر قد لا يعرفه الكثير من الناس.
ويكمل (أبو صادق) حديثه ل (العراق اليوم) عن هذه الملحمة الفريدة قائلاً:
كان الشهيد تحسين قد استأجر داراً في مدينة الصدر قطاع ٤٥ حيث يقوم بنقل المجموعة المنفذة كل ليلة جمعة، للاستطلاع، بعد أن علم بأن المجرم عدي يتجول هناك في اماسي الخميس فقط، من أجل (إصطياد) البنات، وممارسة اللهو، واستعراض سياراته الفارهة.
إصطياد الهدف المتهوِّر
وفي ليلة العملية، كان عدي يقود سيارة بورش وقد وقف الاخ المجاهد (سلمان) على التقاطع، وما أن استدارت سيارة عدي حتى أشرَّ سلمان للمجموعة المنفذة على السيارة ليحددها لرفاقه.. فتوجه لها مؤيد راكضاً، واخرج بندقيته من حقيبته الرياضية، ثم تبعه عبد الحسين راكضاً خلفه ومعه بندقية ايضا وهنا أصبح مؤيد في مواجهة سيارة عدي من الأمام وسرعان ما أطلق النار عليه، من وراء زجاج النافذة الأمامية، ليفرغ عليه نصف رصاص بندقيته.. بعدها حاول عدي الاختباء تحت المقود، فاستدار نحوه مؤيد من جهة باب السائق، وأفرغ فيه ما تبقى من رصاص البندقية!
وهنا رمى مؤيد وَعَبَد الحسين بندقيتهما في موقع العملية، بينما بقي المجرم عدي يسبح بدمه داخل السيارة – وبعد أن تأكد المنفذان من إصابة عدي إصابة قاتلة ومميتة، انسحبا بشجاعة، وثقة، وبأس شديد، عبر القيصرية المؤدية الى فرع خلفي، كان الشهيد تحسين ينتظرهما بسيارته فيه!
ثم يلتقط محدثنا (أبو صادق) أنفاسه، بعد أن يطلق حسرة طويلة، كانت كافية لمعرفة حجم الحزن الذي غمر نفوس المنفذين، والمشرفين على العملية حين علموا بعدم وفاة المجرم عدي..
بعد ذلك أكمل المجاهد أبو صادق حديثه عن هذه العملية النادرة، قائلاً:
بعد تنفيذ العملية ركب المشاركون سيارتهم، وانسحبوا نحو مدينة الصدر وهم يهنؤون ويقبلون بعضهم البعض، بعد ان تأكدوا من مقتل عدي، لكنهم لم يكونوا يعلمون أن ثمة (شرطي مرور) مع رجل أمن، وشخص من أتباع عدي يدعى (علي الساهر) سيحملون المجرم القتيل الى مستشفى داخل مجمع القصر الجمهوري – حيث يتضح أن عدي لم يصْب برأسه ولا بقلبه، إنما كانت الإطلاقات، والإصابات كلها في العمود الفقري والصدر والرجلين والبطن!!
وهنا انسحبت المجموعة بسلام الى الناصرية – قضاء سوق الشيوخ - ناحية العكيكة – آل جويبر (منطقة الزورة) - ليمضي سلمان وتحسين الى الأهوار، بينما يعود كل من مؤيد وعبد الحسين الى بغداد ليلتحق بهما المجاهد الشهيد ابو علي الناصري (صباح صعيصع گناوي ناصر الخفاجي) من أجل إستكمال جدول عملياتهم، حيث كان المجرمان قُصي صدام، ومحمد حمزة على جدول القصاص، علماً بأن المجاهدين تابعوا محمد حمزة الى مزرعته في الصويرة، وتابعوا المجرم طه ياسين رمضان في منطقة ذراع دجلة.
العملاء متوفرون في كل وقت ومكان
لكن الأقدار لم تمهل المجموعة الباسلة المجال كي تنفذ ما في جدولها من عمليات، إذ أكتشف المجاهدون عام 1998 في المقر الذي خطط للعملية في (زورة آل جويبر) عميلاً حاول اختراق الأهوار لصالح مديرية امن الناصرية. والملفت للأمر أن رسالة التنبيه قد وصلت الى المجاهدين من شقيق العميل نفسه، حيث كان هذا الشقيق مسجوناً، وقد شك بشقيقه من خلال تردده المستمر على السجن، والسماح له بزيارة أخيه مرات عديدة، فضلاً عن إهتمام رجال الأمن به.. فكيف يحصل هذا، حيث يفترض بشقيق المعارض للنظام أن لا يأتي الى السجن المحاط برجال الأمن، ولا يسمح له بالدخول والخروج بحرية .. وقطعاً فأن هذا الامر جعله يشك به, ويحذر رفاقه المجاهدين من أخيه.
وفعلاً فقد أعترف هذا العميل، بعد أن حقق معه المجاهدون بتقديمه وصفاً دقيقاً لشكل ومحل سكن احد المنفذين لعملية إغتيال عدي، وهو الشهيد البطل (عبد الحسين جليد عاشور ) ولما كانت الحكومة تنتظر مثل هذا الخبر بفارغ الصبر، بعد أن عجزت عن الحصول على أي خيط يرشدها الى هوية المنفذين طيلة عامين من البحث والتحري والمتابعة الدقيقة، حتى تمكنت مديرية الأمن بمساعدة هذا العميل الى أول الخيوط غير المباشرة، وذلك عندما أخبرها العميل المذكور بأن المجاهد (ابو سجاد) هو الشخص الذي قام باغتيال المجرم البعثي المدعو (سفيح عچرش)، وهو نفسه المشارك في عملية إغتيال عدي في المنصور – وبعد اجراء فحص البصمات على البندقيتين، تأكد لهم صدق إدعاء العميل، من خلال تطابق البصمات، وتأكد الهوية.
يكمل أبو صادق سرد الرواية لقراء (العراق اليوم) فيقول: وبعد هذا النجاح الإستخباري الحكومي، وبتوجيهات مباشرة من راس النظام، ومن المجرم عدي أيضاً، تم تشكيل لجنة تحقيق ومتابعة عليا ، حيث فرضت رقابة شديدة على عائلة الشهيد عبد الحسين في الشطرة، عسى أن يحصلوا من خلال العائلة على خيط يرشدهم الى محل إختفاء المطلوب، خصوصا وأن الأمن العامة قد تعتقد بأن (المتهم) سيزور امه حتماً في يوم من الأيام.. حتى جاء ذلك اليوم الذي قررت فيه أمه زيارته في بغداد – حيث كان الشهيد عبد الحسين يسكن في منطقة الأمين / نواب ضباط - بينما كان رفيقه المجاهد مؤيد ابو صادق يسكن في بيت مستأجر في منطقة الشعب.
وفي هذه الزيارة التقى ابو سجاد بأمه الخاضعة للمراقبة، والمتابعة دون أن تدري، أو هو يدري، في مرقد الامام موسى الكاظم عليه السلام، وفي هذه الغلطة التي كلفته حياته - جاء بها لرؤيتها في بيت رفيقه في العملية مؤيد.
وهنا - استدل رجال الأمن على البيتين السريين لمنفذي عملية المنصور – بيت مؤيد وبيت عبد الحسين – وللعلم بأن المجموعة قبل التنفيذ كانت تضم كل من الشهيدين الشيخ صادق الدراجي وحسين عبد احمد الغديري الساعدي – حيث كان حسين الساعدي رابطهم بالأهوار، عن طريق صديق له في الجيش، وهذا الصديق العسكري هو الذي جاء بالمجموعة كلها من قطاع ٤٩ في مدينة الصدر.
داهم رجال الأمن وكر (الامين) الذي كان فيه عبد الحسين وصباح صعيصع، فأصيب عبد الحسين برجله نتيجة المقاومة، بعدها تم اعتقالهما.
ثم توجه رجال الأمن الى بيت مؤيد في منطقة الشعب، لكن مؤيد لاحظ حركة غريبة حول بيته من خلال صعوده الى السطح، وتأكده من ان البيت مراقب، بل ومحاط برجال الأمن، لكنه نجح في الخروج مع زوجته وابنه الرضيع من الباب الخلفي للدار، فقرر في الحال الذهاب الى بيت (الأمين ) لإخبار عبد الحسين وصباح بذلك – وهنا خدمه القدر حين وجد بعض رجال الأمن يقفون في باب البيت الذي قصده، وهم ينتظرون مؤيد أو غيره من القادمين اليه.
أما كيف يقف رجال الأمن في باب البيت وهم الذين اختفوا فيه لإصطياد من يأتي للدار من رفاق عبد الحسين، والجواب أن رجال الأمن الذين كانوا مختفين في البيت، اضطروا الى الخروج نحو باحة الدار حيث كان الوقت ليلاً والجو شديد الحرارة ، فضلاً عن انقطاع الكهرباء، فأدرك مؤيد بفطنته، وحسه الجهادي أن الواقفين بالباب هم من رجال الأمن، وقد لاحظ ذلك قبل وصوله، فتأكد من ان البيت قد تمت مداهمته- فمر من أمامهم بحذر وهم ينظرون اليه، مكملاً مسيره دون أن يلفت إنتباه أحد حتى وصوله الى نهاية الفرع، فسارع الى إيقاف إحدى سيارات الأجرة، وبعد ذلك تمكن من الانسحاب الى الأهوار – ولما عاد رجال الأمن الى بيت (الشعب) وجدوه فارغاً، فنصبوا السيطرات الامنية من بغداد حتى سوق الشيوخ عسى أن يعثروا على مؤيد، لكن مؤيداً نجا مع زوجته وولده الرضيع باقر، ووصلوا بسلام الى مقرهم في الأهوار.. ومن هناك نقل الى القيادة الميدانية خبر اعتقال الأخوين – ليغادر بعدها مؤيد الى ايران براً عن طريق الحدود.
ماذا عن المعتقلين عبد الحسين، وصباح؟
الجواب كما يقول المجاهد (أبو صادق) وهو يروي تفاصيل هذه الملحمة الخالدة: لقد خضع المعتقلان عبد الحسين عاشور، وصباح صعيصع لتعذيب وتحقيق مركز – حتى يقال أن ضباط الأمن كانوا يقيمون معهما في نفس الزنزانة لمعرفة هوية بقية المنفذين، علماً بأن نظام صدام قد أذاع بفخر خبر اعتقال المجموعة في الإعلام الرسمي، ثم حكم بالإعدام على البطلين عبد الحسين وصباح، وعلى جميع الذكور من أبناء عوائلهم ايضاً.
أما المشارك الثالث وأقصد به الشهيد تحسين (سائق السيارة التي نقلت المنفذين) فقد سكن في الأهواز جنوب إيران مع عائلته، وعمل كسائق تاكسي، لكن المخابرات العراقية التي عرفت محل سكنه، ارسلت له عميلا اغتاله بعد أن استأجره على طريق اهواز - كوت عبد الله، فمضى شهيدا رحمه الله! ولعل من المهم ذكره أن المجرم عدي قد أشرف بنفسه على ملف التحقيق والاعدام .
رحم الله الشهداء الأبطال.. وانا لله وانا اليه راجعون.