بغداد- العراق اليوم -عمار المأمون: يَمتلك ديوان “أكزيما” للشاعر العراقي محمود عواد وكدواوين شعراء ميليشيا الثقافة، خصائصه الشكليّة المميزة منذ العنوان بوصفه العتبة المؤسسة للوباء وأول أعراضه، ثم الختم الخاص بالديوان، الذي يصك الصفحة الأولى منه مكسبا إياه صيغة طلسميّة. لندخل بعدها رحلة في عوالم القسوة والرعب والأصابع المقطوعة، لنتلمس جحيما تشكّله السكاكين والأعين المقلوعة، فـ”أكزيما”هو وباء يمتدّ في جلدة المخ مُلهبا خلاياها.
انتهاك الحواس
يباغتنا ديوان عوّاد، الصادر عن دار مخطوطات، كالمصاب بالجذام يحكّ جلدة مستفزا إياها حد النزيف، مشعلا الحواس مصعّدا إيّاها، إذ لا يكتب بوصفه ضحيّة أو مخلصا بل يبني الجملة الشعريّة بوصفها انفجارا يئزّ صوته في الأذنين أو نهرا من دماء نُشده أمام جريانه. الشعر في أكزيما ينقسم ويتضاعف وينتقل بالعدوى. هو فيروس هجين لا يمكن الفكاك منه، لا اللمس ما يسبّب العدوى به، بل اليقين بأن الرأس قد لا ينتمي إلى الجسد في العراق، إذ نقرأ “آخر مرة بكينا فيها/ كان الدمُ ينهمر/ فحص كلّ منّا عين الآخر/ وجدنا قاطما من الذبّاحة، يُعيدون ماكياجهم للقاء قادم معنا”. ففي أكزيما هناك الآخر القاتل والآخرون الأشلاء، وهناك الناجون بحياة مؤقتة، يدارون أجسادهم وأبسط ما يملكونه، بانتظار القنبلة أو الصاروخ الذي سيشجّ الجدار ويقودهم من أهدابهم نحو الموت، الذي يجعل من أجسادهم فراشا للإسفلت يداعب جنازير الدبابات وهي تحجّ، مواكبا لتطرّز حتوف من تبقّى.
فهارس للموت
يعمل عوّاد على التلاعب بشكل الكتاب من الداخل، فبنية الديوان الشعري مختلفة عن المألوف، والصفحات تحيل إلى غيرها، ليولد نفسه من جديد. كذلك نقرأ الفهرس بوصفه تكرارا لعبارة “ماتوا أيضا” ثم نهاية “هكذا منذ قرون، ولم نحظ إلى الآن بالجذر التكعيبي للغيب”. كما نلاحظ أن الديوان كتلة واحدة، لا عناوين للقصائد، التي تتراوح بين الجمل الشعريّة المكثفة، وبين المقطع أو الاثنين، فهي أشبه بالأكزيما فعلا، التي لا يمكن التنبؤ بأماكن انتشارها في الجسد. هي تستبيح البشري شعريا لتزرع في ثناياه إيقاعاتها، كما تمتد لتضرب الذاكرة أيضا، فأصدقاء الطفولة قد أصبحوا قتلة أو موتى، لا يمكن ضبط انتشار الوباء إلا بشدة القصيدة، إذ نقرأ “الحرب خراجة إيروتيكيّة/ ننفخ أجسادنا وننام، عندما يُطعن أحدنا/ ينفجر/ فينتبّه البقيّة”.
رحلة شعرية في عوالم القسوة والرعب
يحضر في أكزيما مفهوم الضحك التراجيدي، ذاك الذي عرّفه جورج باتاي في إحدى المقابلات معه على أنه “الضحك بوجه الصليب”، هو الضحك ما بعد الخراب، ما بعد الموت، أشبه بهستيريا الخطايا، إذ نقرأ “منذ اختطافه وإلى الآن وأمه ملتصقة بالتلفزيون حتى صرنا/ نضبط ألوانه بدموعها”، هناك كوميديا خفيّة تحتويها الجملة الشعريّة، ضحك لانتهاك القدسية بوصف الحرب لا تترك ما يستحق التقديس، فالدموع والتلفزيون ثنائية متناقضة، البشري والشخصي الحميمي بوجه الجماهيري والعمومي والسياسي، الضحك يكمن في المفارقة التي تحملها العبارة، ألوان التلفزيون والتحكم فيها بالدموع، فالضحك هنا لاحق على التراجيديا/ الصلب، فالاختطاف تم، ولم تبق لنا إلا الهستيريا بعد الفجيعة.
شروط الحياة
الجسد الإنساني ضمن المجموعة لا يكتسب حضوره إلا من صيرورته، من الفعل، لا من الحضور، فالثبات هو الموت، لا بد من حركة دائمة يختلط فيها اليومي بالحميمي في سبيل إحياء الجسد، فتتبادل الموجودات الأدوار، فللقنبلة ذوق وحساسيّة، وقد تتحول اليد إلى زينة، وهذا التبادل هو ما يكسب الحياة/ الجسد صيغة الاستمرار، ولو أن الموت قادم لحصاد(هـ)ـا. فالوعي الذي تكتسبه الأشياء هو امتداد للجسد، علّه بوعي الأشياء به يكتسب دفقا من الشعور “على السطح/ بنينا حماما بخاريا/ برف طويل يضم أنواعا من الصابون والمعطرات/ ومناشف عالية الجودة بألوان متنوعة/ فثمة قذائف تهتم بسمعة زبائنها/ ولربما للشظايا منازل أيضا/ وليس من اللائق أن تعود متّسخة”.
المصدر: جريدة الحقيقة