كوكب حمزة ...الفنان الذي لم يعزف على وتر لطاغية

بغداد- العراق اليوم:

 

هكذا هي الحكاية أذن ، وهكذا كانت الرحلة، أيها الكوكب الغريب الذي لم يكن يعرف أن «محطات» كثيرة بانتظاره. وهو يشد الرحال نحو البصرة، بعد أن بدأ رحلته من بلدة منسية على إطراف الحلة، تدعى "القاسم" حيث لم تترك في ذاكرة الفتى " كوكب" سوى منارة ذهبية، وصوت مئذنة طويلة شامخة، وصوت إيقاعات طبول المواكب الحسينية التي ستظهر سريعاً في اغنية «بنادم» المفجعة.

 

سيحمل كوكب الشاب روحه الهائمة، بحثاً عن شيء لا ينالهُ الباحثون بيسر، سيظهر عبر «يا نجمة» التي سيكتب كلماتها جنوبي أسمر، يدعى كاظم الركابي، وسيؤديها شاب يبحث هو الأخر عن ذاته في عاصمة تتمخض بقوة. فتبدأ من هناك واحدة من أكثر الحكايات العراقية شجناً وعاطفةً، سيبدأ " كوكب حمزة" المُحمل بذاكرة دينية، والمزود بروح ثورية يستمدها من يسار واعد آنذاك. ليكتب نوتات الثورة والتطلع إلى الجديد، كاسراً رتابة اللحن البغدادي المبتلى بسطحية وفقر مدقع من ناحية التنوع الإيقاعي أو الجمل الموسيقية التي ظلت تتسرب من شقوق زمن ماض.

 

 

هكذا كانت رحلة كوكب حمزة المولود في ناحية القاسم التابعة لمحافظة بابل حالياً، والذي سيغادرها بعد أعوام عديدة نحو البصرة، بعد إن التحق بمعهد الفنون الجميلة، بعناد فنان كامن يريد ان يفك قيوده بأي ثمن !.

 

من البصرة سيبدأ حمزة بتشكيل ذات أخرى، سرعان ما سيغادر المدينة الغافية على الخليج، بعد إن يكتشف بنزقه وفوضويته، انه لا يصلح لوظيفة، سوى التيه مع اللحن. لكنه أي تيه ذلك الذي ينتظر هذا الكوكب الوحيد.!

 

سينطلق كوكب حمزة نحو بغداد، التي كانت تشبه دجلة بفورانه وتدفقه، كأنه يريد إن ينتزع قاعه، ويبدل لون مائه، هكذا كانت بغداد تغلي، فيزيد تفجرها العذري كوكب الذي سيبدأ أول تجربة لحنية مع فنانة لم تشأ الأقدار أن تأخذ بيدها رغم اقتدار صوتها وشجنه، هي غادة سالم التي أنجز لها كوكب لحن " مر بيه".

 

لم ييأس كوكب الممتلئ رغبةً وشهيةً لكسر تابو الأغنية التقليدية، سيجد هناك كاظم الركابي الفتى الفارع، القادم من الناصرية، والباحث عن نجومه  هو الأخر، سيلحن له  " يا نجمة"، وسرعان ما سيكتشفان شاباً من ذات الناصرية، سيؤديها حسين نعمة المعلم المتمرد، لتقلب الدنيا هذه "النجمة " في إذاعة العراق الرسمية آنذاك. وستتحول فيما بعد نجمة الثلاثي إلى إيقونة، وبوابةً لجميعهم، حيث سينطلقون في هذا الفضاء. 

 

كوكب حمزة الشاب الواعد، الفنان الشيوعي الذي يختار أكثر القوى العراقية تقدماً وتطلعاً للحداثة والتجديد، لتكون مرجله الذي يستمد منه غليانه اللحني، وسيعلن فيما بعد مع ثنائي أخر من الملحنين هما طالب القره غولي وكمال السيد ثورة غنائية في بغداد التي تعصف بها ثورات السياسة. سيفاجئ الجمهور الذي اعتاد لحناً رتيباً وكلمات بسيطة، بلحن طويل وممتلئ ومتنوع، وقصائد من الصعب إن تلحن، لكنهم سيصنعون تلك المعجزة، فبغداد كانت تنزع عنها ثوبها، وتحاول جاهدةً ان تلتحق بركب المدن التي تتغير بسرعة.

 

لم يكن الملحنون الثلاثة ( كوكب والقره غلي وكمال السيد) لينجحوا لولا توافر عنصر أخر. شعراء شباب مثقفون سيطلقون النار على رداءة الكلمات وفقرها الدلالي،  وسيقتحم "مظفر النواب، وكاظم الركابي، وزهير الدجيلي، والشهيد ذياب كزاز ( ابو سرحان) وكاظم الرويعي وغيرهم " عالم الأغنية لتكتمل ملامح الأغنية الجديدة، وستولد أصوات لم تألفها الذائقة الغنائية العراقية التي انحصرت لعقود طوال في ثنائية ( البغدادي- الريفي)، ستأتي أصوات تتمرد على هذه الثنائية، وترسم لها بصمتها الخاصة. نعني الجيل الجديد آنذاك ( حسين نعمة، ياس خضر، فاضل عواد، فؤاد سالم لاحقاً سينضم سعدون جابر ورياض احمد وغيرهم من هذا الجيل الذهبي ).

 

سيكون كوكب الأكثر انتاجاً في تلك الفترة، والأكثر اكتشافاً لهذه الأصوات، فهو الذي مهد الطريق إمام حسين نعمة الذي سمعه في الناصرية حين كان يحيي حفلاً في نقابة معلمي المدينة، سيعجبه الصوت وسيراهن عليه. فيما بعد، وسيمهد كوكب لنجوم آخرين الطريق عبر ألحانه ، حيث سيفتح الطريق إمام رياض أحمد وستار جبار وغيرهم .

 

 

ثنائي مع ابو سرحان

 

 

  سيتمخض  التقارب الفكري ولربما السياسي بين كوكب حمزة مع الشاعر   ذياب كزار (ابو سرحان) عن ولادة اكثر إيقونات الأغنية الحديثة ذيوعاً، حيث سيكتب ابو سرحان عدداً لا بأس به من الأغاني التي سيتولى حمزة تلحينها، وستظهر بأصوات مطربين شباب وقتها، فقد كتب أبو سرحان الإيقونة " يبنادم" التي اداها حسين نعمة بلحن يقترب كثيراً من الموروث الشيعي. وسيكتب له ايضا أغان عدة منها ( الكنطرة التي أداها سعدون جابر، وهم "ثلاثة للمدارس يرحون" التي غنتها مائدة نزهت والحاصودة، وشوك الحمام لفاضل عواد وغيرها من الأغان لكن للأسف سيختفي أبو سرحان في بيروت، ويغيب الى الأبد على يد عملاء اسرائيل في عام 1982 .

 

لم تحتكر كلمات  أبو سرحان الحان كوكب، حيث سيكون لزهير الدجيلي الشاعر والمناضل القادم من الناصرية ايضاً، حصةً كبيرة ً من تلك الدرر، وسيصنع معه واحدة من الأغاني التي ظلت ولا تزال الاكثر التصاقاً بالذاكرة الغنائية، اغنية " يا طيور الطايرة" التي غناها سعدون جابر. وكان ان اخذت نصيباً هائلاً من الشهرة والذيوع هي الأخرى الى يومنا هذا .

 

لربما كانت اقل من خمسة أعوام تلك الفترة التي انطلق فيها كوكب منذ أول ظهور له عام 1969 الى العام 1974، لكنها كانت خصبة للغاية، سيغني لهذا الشاب مطربون كثيرون منهم فاضل عواد وفؤاد سالم ومائدة نزهت وسعدون جابر وحسين نعمة،ورياض احمد وستار جبار وغيرهم .

 

سيترك كوكب قرابة الخمسين أغنية لتكون حجر الزاوية في الأغنية السبعينية، ويؤسس مع ابناء جيله مشروع الحداثة الطليعي في الأغنية العراقية، وسيظل الأرشيف الغنائي العراقي غنياً بتلك الإلحان التي غيرت وجه اللحن للأبد.

 

 

الكوكب الغريب

 

 

لم تدم هذه الثورة التي يقودها كوكب في بغداد، إذ  سرعان ما اصطدمت بقوة، بنظام سياسي يتأهب لبسط صورته، ودمغ المشهد كله بفكره الأيدلوجي الشمولي التعبوي، ويخضع الحياة الفائرة الى استكانة رهيبة تحت مبررات متعددة. فكا يرفض كوكب هذا الذي يحدث، ولا يجد امامه سوى ان يترك بغداد وهو في قمة عطائه الفني. وسيغادر المدينة هارباً بفنه من التلوث او الوقوع في فخ السلطة التي عرفها حمزة برهافته وحسه انها ستتغول كثيراً وستضع الجميع تحت مخالبها. ترك بغداد يوم 21 يوليو 1974، وتوجه إلى تشيكوسلوفاكيا لدراسة الموسيقى، ومن ثم الى الاتحاد السوفياتي، بعدها درس الموسيقى في أذربيجان وتنقل ما بين كردستان وسورية وأمريكا، حتى استقر في الدانمارك منذ العام 1989.

 

فانقطعت عرى العلاقة مع بغداد ومطربيها، واصبح لحنه تهمةً بحد ذاتها تؤدي بصاحبها الى المجهول. فكانت تلك لحظة حاسمة في مسيرته، الا ان ذلك لم يمنعه من البحث عن فضاء يقاوم به هذا العسف.

 

انتقل بلحنه من الثورة على الاغنية الكلاسيكية الى الثورة ضد النظام السياسي الفاشستي الصدامي  الذي يحكم قبضته بالنار والحديد.

 

 فقام في المهجر بإصدار مقطوعة موسيقية بعنوان "وداعاً بابل" عام 1992 ثم قدم أغنية أخرى بعنوان "الجراد يغزو بابل".

 

بعد مكوثه في أوروبا قرر الانتقال للمغرب ودراسة الموسيقى هناك.

 

استمر كوكب حمزة في مقاومته، وشكل مع الشاعر المناضل رياض النعماني ثنائياً يصنعان لحناً معارضاً يفضحان عبره الديكتاتور ونظامه، حتى تحول كوكب بذاته الى اغنية معارضة، وصار رمزاً من رموز الجمال والموسيقى والمقاومة حيث يبحث عنه ويتقصى اخباره محبوه، ويطارده ويحاربه النظام  البعثي الذي حجب اسمه واغانيه في محاولة لمصادرة اثره، لكنه لم يفلح فقد بقي هذا الكوكب ساطعاً ولا يزال حيث منفاه الاختياري في الدنمارك، يبحث عن الجديد ويبتكر لحناً لقصة عراقية طويلة فيها الكثير من الثورة والكثير من النكبات والمرارات.

 

حمزة الذي اكلت سنون الغربة من عمره كثيراً، لم يكن يتوقف عن حد، فقد تجاوز حدود العراق جغرافياً وفنياً ايضاً، فكان ان اكتشف نجوماً من بلدان عربية، كما فعل مع المطربة الشابة اسماء المنور التي قدمها عبر لحن ( دموع ايزيس) من كلمات الراحل صديقه الشاعر المصري المقاوم احمد فؤاد نجم، كما قدم تجربة ممتازة مع الفنانة فاطمة القرياني وغيرها من التجارب الغنائية الثرة.

 

في هذه السطور التي كتبت على عجالة اردنا ان نوجه تحية الى فنان الشعب وايقونته الشاخصة ( كوكب حمزة) الذي سيبقى كوكباً فنياً ونضالياً ساطعاً وغم ظلمة وحلكة الزمن، وسيظل اسماً وأرثاً خالداً في ضمير كل عراقي حر.

 

 

علق هنا