بغداد- العراق اليوم:
نجحت التجارب العربية ايما نجاح في تنميط الصورة الذهنية عن جهاز المخابرات باعتباره جهازاً مرعباً، فكلما لامست كلمة " مخابرات " اسماع المواطن العربي ارتعدت فرائضه، واصابه الهلع وارتسمت في مخيلته صور التعذيب والتغييب والموت والظلام والاقبية العفنة، ومشاهد السلخ والتقطيع وتذويب الاجساد، واغتصاب النساء، والاعتداءات الجنسية التي تكسر انسانية العربي وتسلبه روح الحرية والكرامة ان بقي له عمر واستطاع ان ينجو من بطن " حوت المخابرات ".
في التجربة العراقية، يمكن القول ان واحداً من اعتى اجهزة المخابرات القمعية في العالم، كان جهاز المخابرات البعثي الذي اسسه صدام حتى قبل ان يتولى الحزب هذه السلطة، وطوره فيما بعد ليتحول الى اسوء مسلخ بشري حول العالم، بعد ان ولى التكارتة على ادارته ليحولوه الى جهاز انتقام اخطبوطي يضرب ذات اليمن والشمال، ولعل ( العراق اليوم ) افرد فيما سبق حلقات متسلسلة عن هذا الجهاز الرهيب .
بعد ٢٠٠٣، وانتهاء حقبة البعث الاجرامي، تبين من خلال جزء من وثائق الجهاز، انه كان يعمل لهدف وحيد، سخر لاجله كل امكانات الدولة ومقدراتها، فالجهاز برمته كان يعمل على حماية رأس النظام ومقربيه، كما ان المخابرات السابقة، كانت جهازاً تخريبياً بامتياز، نجح الى حد بعيد في تدمير البنى الثقافية والاجتماعية والسياسية والاعلامية من خلال اختراقها وتحويل الكثير من رموز هذه البنى الى " مخبرين ووشاة" !.
طبعاً في الدول الديمقراطية، يكون جهاز المخابرات جهازاً ذا ابعاد استراتيجية، واهداف معلوماتية تحليلية، بمعنى هو جهاز علمي بحثي، يتعامل في الشأن الأمني الاقليمي والدولي، لكنه ليس مديريةً للامن ولا مخفر شرطة، بمعنى ان الجهاز يشبه مراكز الدراسات والابحاث في هذه الدول، والتي تعنى بجمع وتحليل ومعالجة شتى المعلومات في قطاعات متنوعة. لذا فأن تلك الاجهزة تحتفظ بعوامل نجاح منقطعة النظير، منها ان تكتسب ثقة المواطن، كونها تعمل على تأمينه اولاً وحفظ مصالحه ومصالح الوطن، وايضاً كون الذين يعملون في هذه الاجهزة رجالاً متخصصين في شؤون علمية محضة، لا وشاة ومخبرون وضعاء كما هي الصورة النمطية عند المواطن العربي.
في الحديث عن تجربة جهاز المخابرات الوطني العراقي الذي اسس بعد ٢٠٠٣، هل يمكن ان نسأل، أو أن نعقد مقارنة بينه وبين الاجهزة المخابراتية العربية القائمة الآن، هل يشبهها مثلاً، وهل يلتقي معها في محطات واحدة، وما هي خطوط التماس بينهما؟
يقيناً ان جهازنا الوطني يشترك، مع هذه الاجهزة بمشتركات عدة، ويفترق عنها ايضاً، ومن المشتركات الجامعة أنه كبقية الأجهزة المخابراتية العربية، بل وعموم المخابرات في دول العالم الثالث، يتصف بكونه جهازاً تابعاً للدولة، تمويلاً وادارةً وعملاً، اي ان الجهاز ضمن منظومة هذه الدول، لا ينفصل عنها او يستقل عن مؤسساتها، كما هو الحال في بعض اجهزة المخابرات العالمية المتقدمة، كما ان الجهاز الوطني العراقي يشترك مع الهدف المعلن من قبل تلك الاجهزة، كونه معنياً بتوفير الامن الاقليمي للدولة، ودرء الاخطار الخارجية التي تتهددها، والحفاظ على مصالحها الدولية. وحتماً فإن هذين الرابطين ليسا وحدهما يجمعان الأجهزة المخابراتية في المنطقة بجهازنا، إنما ثمة روابط عديدة مشتركة أخرى لا مجال لذكرها. وبالمقابل فإن هناك ما يميز جهازنا الوطني (الحالي) عن تلك الاجهزة المخابراتية، وهنا نود التأكيد على كلمة (الحالي)، لأختلاف الجهاز الحالي عنه حين كان قبل اربع او خمس سنوات، إذ لأول مرة في تاريخ العراق، يخرج هذا الجهاز عن نمط التفكير الاعتيادي في كون الجهاز مؤسسة عسكرية - امنية، يجب ان يديرها جنرلات ذوو شوارب كثة، وكروش متدلية ، ووجوه قاسية، بل نجح العراق، في تفكيك هذه المعادلة، وتغييرها من الجذر، حين تولى اليوم ادارة هذا الجهاز، شباب اكاديميون، درسوا في جامعات مرموقة وحصلوا على شهادات علمية في اختصاصات (الادارة ، التحليل النفسي، جمع وتحليل المعلومات، التخطيط الستراتيجي، العلوم العسكرية، فنون الاتصال الحديثة، علوم الاعلام الحديث وغيرها من العلوم ذات البعد الستراتيجي)، كما ان هذا الجهاز يعمل اليوم كمؤسسة تابعة للدولة العراقية وفق قانون نافذ ومنصوص. لا كما كان في الزمن السابق، حيث السرية والكتمان تحيطان بالجهاز، وتحولانه الى طلسم .
اضف الى هذا فأن الجهاز لا ينظر الى المواطن بإعتباره خصمآ يراقبه، ويتابعه، ويصوره، ويجمع المعلومات الصغيرة والكبيرة عنه، ليرصفها في ملفات متربة فوق رفوف الشك والريبة والظن المريب، فرجل المخابرات العراقي اليوم لايعمل كمخبر على المواطن، كما تفعل سائر الاجهزة المخابراتية العربية، بل ان الجهاز يأخذ على عاتقه حماية هذا المواطن وسلامته داخلاً وخارجاً.
وايضاً فان الجهاز الجديد، لا يسمح له ان يتحول الى زنازين واقبية موت سرية، فحتى حين يلقي القبض على بعض الجماعات والعصابات الاجرامية التخريبة للبلاد، فأنه سرعان ما يستكمل اجراءاته التحقيقية، ويحيل المعتقلين الى اجهزة القضاء العراقي ليقول كلمة الفصل. اي ان مفهوم الجهاز الخصم والحكم انتهت الى الابد.
الاهم من هذا كله، ان جهد الجهاز الآن، موجه الى الخارج، اي ان الجهاز يحصر مهمته في معالجة الاخطار التي تتهدد العراق من خارج حدوده الاقليمية، لا بالمعنى السابق، حيث كان البعث قد حول السفارات العراقية الى محطات واوكار لتصفية المعارضين وخطف المنتقدين، وافساد الكثير من النخب الفكرية والثقافية لشراء مديحها لرأس النظام باموال العراقيين.
وقد يشكل علينا البعض، بالقول ان جهاز مخابراتنا الوطني الآن، يشترك في بعض العمليات السرية الداخلية، وهنا نؤكد هذا التوجه، بل ويمكننا القول بجزم ان الكثير من العمليات الناجحة والضربات الاستباقية، تمت بفضل رجالات الجهاز الاشاوس، الذين زرعوا ارواحهم وابصارهم في مواقع العدو الإرهابي، ولعل السؤال الملح: اي عمليات ينفذ هذا الجهاز في الداخل ؟.
الاجابة بالتأكيد، متوفرة، فالجهاز يعمل على مكافحة عصابات الاختطاف، وتهريب المخدرات والاثار العراقية، وخلايا التجسس، وخلايا ضرب الاقتصاد الوطني، ومن يعرف بالقانون والعلوم الجنائية سيكتشف بسرعة ان الجرائم اعلاه صحيح انها تقع في الداخل، لكنها ذات بعد ستراتيجي ودولي، اي ان جرائم الاختطاف هي جزء من سياسة تقويض الامن الداخلي لضرب الدولة برمتها، وهذا تقف خلفه جهات واجهزة خارجية بالتأكيد، سواءً بالمباشر او غير ذلك، كما ان جرائم تهريب الاثار وتخريب الاقتصاد تهدف الى تدمير قوة البلاد وحصانتها، وهكذا الامر يمضي نحو ما يعالجه الجهاز هنا في الداخل.
ختاماً نؤكد ان ثمة ضوء في نفق العراق، وثمة جهود جبارة تبذل في سبيل الحفاظ على العراق واخراجه من لجج الضياع، وان هذه الجهود مغيبة لضرورات وطنية عن الاعلام، لكنها حاضرة في نفس كل عراقي وطني يثمن تضحيات الابطال وسهرهم الطويل من اجل سلامته وسلامة وطنه . ولعل المكسب الأهم ان العراق ربح جهازاً مخابراتياً قوياً، صلباً، مثقفاً، يتعامل بلغة مختلفة، وأدوات مختلفة، وسلوكيات مختلفة، وبإختصار شديد، أصبح لدينا اليوم جهاز مخابرات وطني، ذا أخلاق عالية ..
*
اضافة التعليق